سروار عبد الله

&ما زالت التظاهرات في العراق مستمرةً منذ منتصف حزيران/ يونيو في بغداد وفي أكثر من ثماني محافظات في جنوب العراق. وفي حين يشكّل تحسين تقديم الخدمات العامة مطلبًا رئيسيًا، يطالب المتظاهرون الحكومة بمكافحة الفساد في القطاع العام أيضًا. فمنذ عام ٢٠٠٣، عندما كان فساد الدولة يتركز في أيدي فئة قليلة من الأفراد ذوي الامتيازات في قيادة "حزب البعث"، تم استبدال النظام المركزي القمعي من الفساد الحكومي بنظام فاسد على نحو أوسع، يُعرف باللغة العربية بنظام المحاصصة، وهو قائم على أسس طائفية وحزبية. والمثير للسخرية أن الفساد قد اتّخذ طابعًا ديمقراطيًا.

وإنّ مسألة مكافحة الفساد في العراق مهمة لأن هذه المشكلة خطيرة ومتنامية. فالإدارة الحالية، التي أكدت مرارًا وتكرارًا على أن العراق يجب أن يحارب الفساد بعد هزيمته "الدولة الإسلامية"، تسعى بشكل عاجل إلى استراتيجيات أفضل لمواجهة الفساد. وفي الوقت نفسه، يقرأ الشعب العراقي يوميًا عن أعمال فساد الأفراد في الصحف التي تحكي عن "حيتان الفساد" - وتتعامل مع ما تصفه السلطات العراقية لمكافحة الفساد بمليارات الدولارات المسروقة. كما تنتشر بشكل واسع التقارير الرسمية الخاصة بالفساد النظامي. وقدّرت إحدى&الدراسات العراقية&أن الفساد المالي يأخذ نحو ٢٥ في المئة من المال العام. وفي الآونة الأخيرة، تناولت وسائل الإعلام العراقية حوالي ٨٠٠ ملف من الفساد قيد التحقيق.

وتتفق المصادر الدولية على أن سجل الفساد في العراق قد ازداد سوءًا في العقود الماضية ليس إلاّ، حيث&صنّفت&منظمة "الشفافية الدولية" العراق في المرتبة ١١٧ من أصل ١٣٣ دولة في عام ٢٠٠٣، ويحتل العراق الآن المرتبة ١٦٩ من بين ١٨٠ دولة لعام ٢٠١٧، مع ١٨ درجة (حيث أن ١ = درجة عالية من الفساد و١٠٠ = لا فساد).

وعلى الرغم من الضرورة الواضحة للحد من الفساد في العراق، تتطلب التحديات التي تواجه هذه المسألة استراتيجيةً متأنيةً لاستئصاله بسبب انتشاره الواسع. وبالنظر إلى الصعوبات التي تواجه البيئة الطائفية في العراق، ينبغي أن تركّز الاستراتيجية الفضلى للإدارة العراقية المقبلة على التدرجية – أي اتباع خطوات صغيرة وفعالة بدلاً من محاولة القضاء على الفساد في كل مكان في الوقت نفسه.

نظام المحاصصة

غالبًا ما يشير المعلقون السياسيون العراقيون إلى أن السبب الرئيسي للفساد في البلاد هو الطائفية وتوزيع المراكز الرسمية أو الحكومية بين الجماعات السياسية بموجب ما يُعرف بالمحاصصة. ويشرح بعض المعلقين أن المحاصصة قد جعلت الفساد أمرًا عاديًا في المؤسسات العراقية ورسّخته في النظام السياسي. وينطوي هذا المفهوم ضمنًا على أن الفساد هو الثمن الذي يجب دفعه من أجل ضمان استمرارية النظام السياسي العراقي القائم على الديمقراطية التوافقية – أي مبدأ المشاركة العرقية أو الإنصاف. ولكن يدّعي آخرون أن الأحزاب السياسية في العراق تتلاعب بالنظام التوافقي لتحقيق مصالحها الذاتية، ولا يتم الالتزام بمبادئ الإنصاف النسبي.

وفي حين أن بعض علماء السياسة، ومن بينهم موران، قد جادلوا بأن نظامًا داخل نظام يمكن أن يضعف مؤسسات الدولة. وفي حالة العراق، تقوم المحاصصة بتقسيم مؤسسات الدولة على أسس طائفية وحزبية. وبعبارة أخرى، لم تحل المحاصصة محل الدولة، بل دمجت الأحزاب الطائفية في شبكة الدولة لتشكّل حصنًا منيعًا ضد الآليات الديمقراطية الحقيقية.

ويتمتع نظام المحاصصة هذا بخصائص سياسية واقتصادية وقانونية تعزز بشكل منهجي الفساد وتقوّيه. فمن الناحية السياسية، تسمح المحاصصة بسهولة الوصول إلى الحكومة إلى جانب تخصيص الوظائف لأشخاص من مناصري الأحزاب السياسية في السلطة. وطوال فترة السيطرة على هيكل الدولة، يخصص قادة الأحزاب الوظائف الحيوية والأموال والامتيازات لمناصريهم. وبسبب هذا النظام، يعمل أعضاء الحزب في الحكومة لصالح الحزب، بدلاً من الحكومة أو الشعب الذي يمثلونه. وبالتالي، تهتم الجماعات السياسية بشكلٍ أكبر بالتحكم بالإدارات والبقاء فيها بدلاً من الاهتمام بمتابعة أجندة سياسية معينة.

أما من الناحية الاقتصادية، فتكتسب المجموعات السياسية من خلال المحاصصة سهولة الوصول إلى المال العام واحتكار الأنشطة الاقتصادية في السوق. فقد نمت الموارد الشخصية للسياسيين بشكل كبير خلال العقد الماضي، فإنّ عدد كبير من النخب السياسية العراقية من بين الأشخاص الأكثر ثراءً في البلاد. فقد منحت المحاصصة الأحزاب سهولة الوصول إلى موارد الدولة التي اكتسب قادة الأحزاب من خلالها ثرواتهم الشخصية. ويمكن للأطراف التي دخلت الحكومة بالقليل من البنية التحتية أن تملك الآن عددًا كبيرًا من المحطات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية والصحف عددًا كبيرًا من الموظفين في مؤسساتها وفروع للحزب في مختلف المحافظات.

ويحمي النظام القانوني هذه المنافع السياسية والاقتصادية، حيث يستطيع القادة منع مقاضاتهم في المحاكم. وقد قام عدد كبير من الأحزاب السياسية في الحكومة بتعطيل مؤسسات مكافحة الفساد طوال العقد الماضي، وتسييس عدد كبير من القضايا في المحاكم. علاوةً على ذلك، يتم توزيع المناصب في الهيئات التي من المفترض أن تكون مستقلةً مثل "هيئة النزاهة" على أساس المحاصصة بين الأحزاب السياسية.

في نهاية المطاف، تشكّل المحاصصة العامل الأساسي الكامن وراء انتشار الفساد على نطاق واسع في العراق. ويبدو أنّ الفساد القائم على الانقسامات الطائفية مميّز بالنسبة إلى العراق، إذا لم يكن فريدًا من نوعه، ما يشير إلى اندماجه في المشهد السياسي الأساسي للبلاد. ويجب أن تركّز أيّ محاولة من إدارة العبادي أو الإدارة التي ستليها على تفكيك المحاصصة بين الجماعات السياسية. إلّا أنّ النخبة المترابطة بشكل وثيق محصّنة في النظام السياسي ولا يمكن إزالتها بسهولة. وقد تؤدي محاولات إزاحتها عن مراكزها الآمنة إلى إراقة الدماء، لذا فمن الضروري أن تكون الإصلاحات دقيقة ومدروسة.

الحلول للفساد في العراق

يجب أن تركز المقاربات المجدية لمعالجة مشكلة الفساد في العراق على الجوانب المحدّدة للإصلاحات التي تحدّ من حوافز الفساد بطريقة قابلة للتحكّم وتدريجية. وبحسب جونستون (٢٠١٤)، يجب أن تكون الإصلاحات في مجتمعات ما بعد الصراعات انتقائيةً، حيث يكون التركيز على مكافحة نظام الفساد وأسبابه الأساسية بدلًا من ملاحقة الأفراد الفاسدين. وبالتالي، يجب أن يركّز الإصلاح على أربع استراتيجيات مترابطة:

أولًا، يجب أن تركّز هيئات مكافحة الفساد على الكشف عن ممتلكات وأموال النخبة. ويمكن تصميم مسارات التدقيق لتحديد ممتلكات كل شخص، بما في ذلك المال والممتلكات، والكشف عن الأسماء الحقيقية وراء الشركات الكبرى. وهذا أمر في غاية الأهمية لاكتشاف نطاق الاستعمار السياسي للاقتصاد. ويكون مثل هذا الكشف المالي أكثر فاعليةً إذا تم نشره للمزيد من التدقيق من قبل الصحافة والمجتمع المدني. وتُعتبر هذه الاستراتيجية تدبيرًا مألوفًا في العديد من البلدان، وإذا تم تطبيقها في العراق، يؤمل أن يكون لها تأثير كبير على الانتخابات، وينتج عنها استبدال القادة السياسيين الفاسدين بآخرين نظيفين، وبالتالي تحوُّل في سلوك النخبة.

ثانيًا، يمكن التوصل إلى تسوية سياسية بشكل سريع نسبيًا. فعلى الرغم من ضرورة توخّي الحذر في توقعاتنا بأن تقوم الانتخابات في العراق بتعزيز ترسيخ ديمقراطية حقيقية، يمكن إقامة تسوية سياسية موقّتة من خلال إنشاء هيئة وسيطة للتفاوض على شكل من أشكال المصالحة بين المجموعات في العراق، وإقناعها بالتخلي عن المحاصصة كشرط مسبق لأيّ إصلاح قابل للتطبيق. ولكنّ التسوية ستكون عملية بطيئة. وبما أنّ التغييرات الكبرى لا يمكن تحقيقها إلاّ باتفاق المجموعات على إنهاء المحاصصة، فإنّ التسوية السياسية ستوفّر دفعًا أوّليًا لتحويل الفساد الحالي نحو صيغ أقلّ اضطرابًا.

ثالثًا، يمكن السماح بالتسامح المؤقت إزاء بعض الصفقات الفاسدة. فقد كان التسامح المؤقت - الذي يخفّف تأثير تدابير مكافحة الفساد - طريقةً تم تطبيقها بنجاح في هونغ كونغ (ديفيد، ٢٠١٠). وتركّز هذه الطرق على منع الفساد المستقبلي بدلًا من معاقبة الصفقات السابقة، لتشعر النخبة بأمان أكبر مع هذه القواعد السارية، الأمر الذي يشجّعها على المشاركة في الإصلاحات.

رابعًا، يجب تمكين المجتمع المدني لتعزيز فعالية الضغط الاجتماعي. فلن يقوم أيّ تدبير وحيد، مثل مؤسسات مكافحة الفساد أو إصلاح النظام القضائي، بالإصلاحات الضرورية. علاوةً على ذلك، قد يؤدي المزيد من التحرير الاقتصادي إلى تفاقم الفساد بغياب الضوابط والتوازنات القوية، ما يحول دون تحقيق الديمقراطية الكاملة في المستقبل القريب. ويجب بذل الجهود لتحفيز التفكير الجديد حول الإمكانيات المتاحة لفتح مجال للأنشطة المدنية حيث يمكن تعزيز الضغط الاجتماعي.

إلا أنّ بناء المجتمع المدني سيكون عمليةً تدريجيةً تعترضها العديد من العقبات. فعلى سبيل المثال، لا يتمتع أعضاء المجتمع المدني حاليًا بنفوذ سياسي كبير، لذا لن يتمكّنوا من الكشف عن فساد النخبة لأنّهم إذا فعلوا ذلك، فستكون حياتهم بخطر. ويجب أن نكون واقعيين حول الإصلاحات الممكنة وغير الممكنة وحول مسؤوليات المواطن لإنجاح النظام الذي تم إصلاحه. ويجب الحفاظ على مجتمع مدني أقوى، ما يعني طاقةً اجتماعيةً وفرديةً أكثر فاعلية. وفي الواقع، أرى أنّ الأمل الرئيسي للإصلاح العراقي ينبع من تمكين المجتمع المدني بدلًا من انتظار تغيير النخب وتفعيل قوانين مكافحة الفساد.

إنّ النقطة المشتركة بين هذه الاستراتيجيات الأربعة هي أنّها تركّز كلّها على إصلاح نظام الفساد بدلًا من استهداف الأفراد الفاسدين. فمعاقبة الأفراد الفاسدين تحدّ من الفساد على المدى القصير، ولكن ما لم يتم تفكيك النظام الفاسد، فإنّ أولئك الذين يُعاقَبون سيتم استبدالهم بآخرين ذوي أهداف مماثلة. ويتطلب القضاء على الفساد على المدى الطويل استئصاله من مصدره، وليس من عناصره الحاليين.

معهد واشنطن