نصير فليح

الديمقراطية كما يبدو هي منطق العصر. واليوم في بلدان العالم اكبر نسبة من البلدان الديمقراطية عبر تاريخ الانسان، لكن بالطبع مع درجات مختلفة من الشفافية والنضج. فلا ديمقراطية اصلا يمكن ان تصل الى الكمال، حتى من الوجهة النظرية، الا اللهم في احلام المدن الفاضلة. لكن الوضع في البلدان التي لم تتعود على الديمقراطية، او التي لا تاريخ وتقاليد ديمقراطية فيها، يجعل التحول الديمقراطي عادة صعبا وشاقا كثيرا. فالديمقراطية كما نعرف ليست مجرد صناديق انتخاب، بل ممارسة ووعي عام يتغلغل في ثنايا المجتمع& برمته.

اما البلدان التي تعاني من انقسامات اثنية او طائفية او عنصرية حادة، او التي هيمنت فيها دكتاتوريات لمدة طويلة غيبت الحياة السياسية بابسط اشكالها، وقمعت المشاكل دون ان تحلها، او التي تتعرض لتدخلات خارجية شتى تهدف الى تخريب المسار الديمقراطي، او التي تخفق فيها القيادات الجديدة في تلبية مطالب الشعب، فان الحالة تصبح اصعب واصعب. وبلدنا واحد من هذه البلدان التي اجتمعت فيها شتى انواع العوائق الداخلية والخارجية منذ خمسة عشر عاما.&
يخبرنا التاريخ ان هناك ديمقراطيات وصلت في حالات معينة الى طرق مسدودة بسبب كثرة التناقضات الداخلية فيها، او التي تم اجهاضها بتدخلات خارجية وانقلابات عسكرية ايضا. مع هذا، من يقرأ دروس التاريخ جيدا، يجد ان هذه البلدان عادت بعد كل الويلات التي واجهتها الى المسار الديمقراطي مرة
&اخرى.
الديمقراطية لا تتاثر بالبيئة الداخلية وثقافة وطبيعة المجتمعات المعنية فقط، بل بالبيئة الجيوسياسية الاقليمية التي تحيط بها. فمثلا، بعد الحرب الاهلية الدموية التي جرت في اسبانيا في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، وهيمنت الدكتاتورية فيها لعقود، عادت مجددا الى المسار الديمقراطي. لكن هذه التحولات جرت بسهولة اكبر بكثير، لان البيئة الاوروبية المحيطة باسبانيا والتي تنتمي اليها وترتبط بها تاريخيا وثقافيا وجغرافيا واقتصاديا، كانت قد ترسخت فيها الممارسات الديمقراطية الى حد بعيد، وبالتالي تصبح العودة او التحول الى المسار الديمقراطي مرة اخرى عملية طبيعية تمتلك المقومات المختلفة
&لانجاحها.بينما نجد الوضع في عالمنا العربي، وبضمنه بلدنا العراق، مختلفا كثيرا. فهناك بلدان قوية في المنطقة تحارب التجارب الديمقراطية الناشئة بكل الطرق، وتسعى الى اغراقها في شتى انواع الحروب والصراعات الداخلية القبلية او الطائفية او السياسية. كما ان العالم العربي بوجه عام، لم يتعود على الممارسة الديمقراطية وقبول الرأي الاخر والتداول السلمي للسلطة، والانتماءات المحلية على حساب شعور المواطنة حاضرة وبقوة، وفي ظروف كهذه، يكون التحول الديمقراطي شاقا، وقد ينكفئ حتى الى الدكتاتورية مرة اخرى في حالات معينة، او يعيش مراحل طويلة من الصراع والاضطراب.
وهو ما نأمل ان يتخطاه بلدنا وكل التجارب الناشئة، وان يشعر الناس بثمار التحول الديمقراطي لا مخاضاته فقط.