حسن أبوطالب

فى علاقات الدول علامات تشير الى كوامن الأنفس مهما قيل عكس ذلك. حين تستدعى دولة سفيرها من دولة أخرى للتشاور، عادة ما يكون هناك سبب محدد، بداية أزمة أو نذر توتر أو تصرف تقوم به دولة وترد عليه الأخرى باستدعاء السفير للتشاور فى إشارة الى أن الأمور قد تفلت زمامها. وحين يأتى الأمر مفاجئا ودون سبب معلن، هنا تكثر التفسيرات وكلها تصب فى مزيد من إلقاء الزيت على شرر من النار.

الأسباب التى أوردها الإعلام السودانى وبعض تصريحات منسوبة لسفراء فى الخارجية السودانية تشير إلى خمسة ملفات، أولها مزاعم احتلال مثلث حلايب وشلاتين وهو ما تم الرد عليه رسميا أن هذا المثلث هو أرض مصرية غير قابلة للتنازل. والثانى طلب مصر من إثيوبيا الاستعانة بجهود البنك الدولى لحسم الخلافات الفنية الخاصة بسد النهضة مع استبعاد السودان من المفاوضات الثلاثية، وهو ما نفته مصر رسميا مؤكدة أن الطلب وجه للبلدين معا فى اجتماعات اللجنة الفنية الثلاثية. والثالث الاعتراض على تحديد خط الحدود البحرية بين مصر والسعودية بعد توقيع الاتفاقية الخاصة بجزيرتى تيران وصنافير. ورابعا التناول الإعلامى المصرى الحاد لقرار السودان تسليم جزيرة سواكن لتركيا لمدة غير محددة لإعادتها إلى الأصل الاستعمارى العثماني. وخامسا قيام مصر بتسليح حركات المعارضة فى دار فور، وهو ما نفته مصر تماما.

كما يشكو السودان دائما بأن الإعلام المصرى يسئ للمواقف السودانية ويؤجج نيران أى خلاف، وهى شكوى تحمل قدرا كبيرا من التناقض ويمكن الرد عليها بسهولة، إذ هناك فى الإعلام السودانى الكثير من الإساءات إلى مصر والكثير من الشائعات والكثير من التهديدات بطرد العمال المصريين من السودان ووقف استيراد السلع الصناعية والزراعية المصرية. وهنا نلاحظ مفارقتين؛ الأولى أن البلدين شكلا لجنة عليا لاحتواء أى خلافات بينهما، كما اتفقا على التوصل الى ميثاق إعلامى يضبط المعالجات الاعلامية فى البلدين ويحافظ على روح الأخوة بين الشعبين، ولكن لم يُعمل به. أما المفارقة الثانية فهى اختلاف مضمون تصريحات السفراء السابقين فى كلا البلدين، ففى الجانب المصرى ثمة تخفيف من قدر الخلافات والقول بأنه سيتم حلها بالتواصل بين المسئولين المعنيين، مع تأكيد أهمية الحفاظ على علاقات الشعبين المصرى والسوداني، بينما فى الخرطوم نجد تلميحات وتصريحات تعكس رغبة فى تصعيد الخلافات وليس احتوائها، وبعضها يتهم مصر صراحة بأنها تعتدى على الأراضى السودانية وتريد جر السودان الى حرب بشأن حلايب وشلاتين، حسب ما قاله قال رئيس اللجنة الفنية للحدود من الجانب السوداني، عبد الله الصادق. وبعضها الآخر يدعى أن مصر هى التى تؤجج الخلافات فى دارفور وتدعم المعارضة وتتواصل معها من أجل تشتيت جهود السلام هناك. وكان الرئيس البشير اتهم مصر مايو الماضى بالتدخل فى دار فور، هو ما نفاه الرئيس السيسى بكل وضوح وقوة.

ولعل تصريحات وزير الخارجية السودانى البروفيسور ابراهيم الغندور لوكالة الاناضول التركية فى حوار حصرى تم فى أثناء زيارة الرئيس أردوغان للخرطوم، تكشف تلك المفارقة ولكن رسميا، إذ يقول إن سياسيين مصريين لا يريدون أن يكون السودان دولة قوية، والبعض فى مصر لا يفهم أن السودان القوى فى مصلحة مصر. وفى حوار آخر مع قناة »روسيا اليوم« يقول إن مصر استخدمت لسنوات طويلة جزءًا من حصة السودان من مياه النيل، وإن مصر منزعجة لأنها ستخسر تلك المياه عند اكتمال بناء سد النهضة لكونه سيمكّن السودان من حصته بالكامل. وهو ما رد عليه الوزير سامح شكرى وزير خارجية بإن ما استخدمته مصر من مياه حصة السودان فى السابق كان فائضا عن قدرته الاستيعابية وبموافقته وليس سلفة أو منحة.

وهناك الكثير من تلك التصريحات السودانية التى تتضمن إساءات واتهامات مباشرة لمصر. والغريب هنا أن مصر وقفت كثيرا مع السودان فى الأمم المتحدة لتبعد عنها شبح الإدانة فى مجال حقوق الانسان، كما لعبت دورا رئيسيا فى منع الامم المتحدة من فرض عقوبات على السودان كانت تسعى الولايات المتحدة الى فرضها قبل عدة سنوات. ومصر هى نفسها التى وقفت مع وحدة السودان بينما قبل نظامه تقسيم السودان. ولعل تصريحات وكيل وزارة الخارجية السودانية تكشف مثل هذا التضارب فى الموقف تجاه مصر، ففى 30 سبتمبر الماضى صرح قائلا« إن مصر دعمت وساندت السودان فى اجتماعات الدورة الحالية لمجلس حقوق الإنسان وهنا تنسيق وتعاون بين البعثتين الدائمتين للبلدين فى جنيف«.

والسؤال الذى يمكن أن نوجهه للبروفيسور ابراهيم الغندور وهو صاحب الخلفية الاكاديمية الراقية، فلو أن مصر تريد السودان ضعيفا حسب وصفه، هل كانت تقف معه فى مجلس حقوق الانسان وتطالب بمزيد من الدعم له وتمنع عنه الانتقادات التى وجهت إليه من أطراف عديدة؟ نحن فى مصر لا نريد إلا الخير للسودان وشعبه، لكننا نريد أيضا ألا يكون السودان مركزا لما يضر مصر فى أمنها ومصالحها المباشرة. والكل يعرف أن السودان يحتضن اكثر من 400 كادر إخوانى بعضهم هارب من احكام قضائية، ويتمتعون بحرية الحركة وتشكيل كتائب اليكترونية تبث الشائعات والمعلومات المغلوطة عن الأوضاع المصرية، وتستهدف بث الفرقة بين البلدين، وكثيرا ما قُدمت ملفات كاملة بالمعلومات عما يفعله هؤلاء الى المسئولين السودانيين، ومع ذلك لم يُتخذ أى قرار حاسم يعكس حرصا على أمن مصر بل وأمن السودان أيضا. ولعل الرئيس أردوغان وبجواره الرئيس عمر البشير فى اثناء زيارته الأخيرة للخرطوم رافعا يده بعلامة رابعة الشهيرة تعطينا أكثر من دلالة سلبية. وإذا كان للسودان مصالح اقتصادية او تجارية مع تركيا، فهذا حقه، ولكننا لن نتوقف عن التساؤل لماذا التعاون العسكرى وفق اتفاقات غير معلنة، ولماذا يمنح جزيرة وتنزع عنها ملكية أصحابها من مواطنى السودان لتحويلها إلى قاعدة تركية تثير القلق لدى أشقاء للسودان سواء فى مصر أو فى السعودية؟ ولدينا الكثير من الأسئلة المشروعة حرصا على علاقات أخوية سوف تستمر إلى الأبد فى حين أن النظم تأتى وتذهب ولكل منها زمن معلوم.