علي حسين باكير

خلال الأيام القليلة الماضية، شن المسؤولون الأتراك، يتقدّمهم كل من رئيس الجمهورية، وزير الخارجية ورئيس الوزراء والناطق باسم الرئاسة، حملة إعلامية وسياسية شرسة ضد الولايات المتّحدة، وذلك على خلفية قرارها إنشاء قوّة جديدة من الميليشيات الكرديّة داخل سوريا باسم «قوات أمن الحدود».


واستناداً الى ما أعلنته الولايات المتّحدة سابقاً باسم قوّات التحالف، فان قوات امن الحدود التي تنوي تشكيلها في سوريا يبلغ قوامها حوالي ٣٠ ألف مقاتل، غالبيتهم من عناصر «قسد» التي تشكّل ميليشيات «بي واي دي» الكردية عمودها الفقري، فيما ستتم تغطية الجزء المتبقي من القوّة من خلال تدريب عدد من المقاتلين على دفعات، علماً انّه قد جرى تخريج ٢٣٠ عنصراً بالفعل ضمن الدفعة الأولى.


وردّاً على الإعلان الأميركي، توعّد الرئيس رجب طيب أردوغان بخنق هذه الميليشيات الوليدة في مهدها قبل أن تتشكّل، مؤكدا انّه يجري الاستعداد لإطلاق عملية عسكرية في الشمال السوري بمشاركة قوات الجيش السوري الحر، وتستهدف بشكل أساسي تطهير مدينة عفرين من الميليشيات الكردية، وسط توقعات ان تكون منبج الهدف التالي حال الانتهاء من عفرين.
وفقاً للجانب الأميركي، فان قوة حرس الحدود ستنتشر في نقاط على الحدود مع تركيا شمالاً والعراق في الجنوب الشرقي وعلى امتداد وادي نهر الفرات، على أن يتم نشر مزيد من المقاتلين الأكراد في شمال سوريا، ومزيد من العرب في المناطق المحاذية لوادي نهر الفرات وعلى الحدود العراقية جنوباً.
وفي الوقت الذي توحي فيه الولايات المتّحدة ان الهدف من إنشاء هذا التنظيم الجديد حفظ أمن الحدود وإزالة الألغام والوقوف في وجه النظام السوري وإيران وروسيا، فان الجانب التركي يرى نفسه المستهدف الأوّل والأساسي بهذه الخطوة، وهو ما يتطابق مع ما أعلنته المسؤولة الكردية في سوريا فوزا يوسف، التي قالت انّ هدف هذه القوّة هو حماية الأماكن التي يسيطر عليها تنظيم «بي واي دي» الكردي من تركيا ودمشق.

وعود أميركية


ويعتقد محللون أنّ إقحام دمشق هو للتمويه فقط على اعتبار ان الميليشيات الكردية تعاونت أكثر من مرّة- قبل الثورة وخلالها- مع نظام الأسد، وبالتالي فهذا يجعل انقرة المستهدف الأوّل من هذه الخطوة الأميركية. وسبق أن حذّر المسؤولون الأتراك نظراءهم الأميركيين من استمرار الولايات المتّحدة في تجاهل المصالح الحيوية والمخاطر المحدقة بالأمن القومي من جراء دعم واشنطن للميليشيات الكردية، لكن شيئاً لم يتغير على الجانب الأميركي بالرغم من الوعود التي قيل ان الاميركيين قطعوها في مراحل متعددة خلال النزاع.
ومن المفارقات انّ إعلان الولايات المتحدة طغى على الخلافات التي اندلعت مؤخراً في سوريا بين كل من تركيا وروسيا وإيران، ودفع الدول الثلاث الى التقارب مجدداً، وهو ما كان من الممكن استنتاجه من خلال إدانة الدول الثلاث للإعلان الأميركي بشكل حاد.
السلطات التركية ألحقت تصريحاتها النارية بتعزيزات عسكرية على المناطق الحدودية، في خطوة توحي بأنّها مستعدة فعلاً لتنفيذ عملية عسكرية جديدة ضد الميليشيات الكردية في عفرين. وتشير بعض المصادر الى انّ الجانب التركي كان قد استعدّ لإطلاق عملية عسكرية في عفرين قبيل اندلاع الأزمة الأخيرة مع الولايات المتّحدة على خلفية إنشاء قوّة حرس الحدود.
وخلال الأيام القليلة الماضية اختبرت القوات المسلحة التركيّة ردّة الفعل من خلال تكثيف القصف المدفعي على الحدود، فيما ردّ البنتاغون على الاتهامات التركية بالقول انّ «وحدات حماية الشعب» الكردية «لا غنى عنها»، لكنّ منطقة عفرين «تقع خارج نطاق مسؤوليات التحالف الدولي». مثل هذا الأمر يعني انّ الباب بات مفتوحاً امام إمكانية إطلاق تركيا لعمليتها العسكرية هناك، خاصّة في ظل المعلومات التي تقول انّ الجانب الروسي لا يمانع على الأقل قيام تركيا بمثل هذه العملية.
صحيح انّ روسيا تعاونت ولا تزال في كثير من الأحيان مع الميليشيات الكرديّة (بي واي دي) في سوريا، لكن ليس من مصلحة موسكو ان تتحوّل هذه الميليشيات الى أداة أميركية خالصة، ولذلك يهمها ان تتم إعادتها الى بيت الطاعة من خلال معاقبتها. وبما انّ الامر سيكون بأياد غير روسية، فذلك سيخفف من العبء على الموقف الروسي، وان كانت موسكو تفضل ان تكون الضربات محدودة على الأرجح.

مواجهة تلوح في الأفق


هذه المعطيات تعني انّ مواجهة سياسية تركية- أميركية تلوح في الأفق، وسط تساؤلات عن قدرة تركيا على الدفع باجندتها الخاصة في سوريا في مثل هذه الظروف ووسط دعم اميركي متزايد للميليشيات الكردية المسلحة. وزير الخارجية تشاويش اوغلو كان قد حذّر من أنّ العلاقات التركية- الأميركية قد تتضرر على خلفية دعم واشنطن المستمر للميليشيات الكردية بشكل يصعب معه إصلاحها فيما بعد.
من الناحية النظريّة، تمتلك أنقرة ما يخوّلها الدفع بأجندتها داخل سوريا في المعركة القائمة حاليا، فهي تمتلك واحدا من أقوى الجيوش في المنطقة وثاني اكبر جيش في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وسبق لها ان نفّذت عمليات عسكرية ناجحة في الشمال السوري أبرزها عملية درع الفرات، وذلك مقابل تكاليف مقبولة لناحية العتاد والخسائر البشرية.
من الناحية العملية الموضوع أكثر تعقيداً من ذلك، ويعتمد على عناصر أخرى متداخلة ومتحرّكة في نفس الوقت لعل اهمّها وضع المعارضة السورية المسلّحة والسياسية، وطبيعة العلاقة مع روسيا، ومع إيران في توقيت محدد.
صحيح انّ شريحة من السوريين بدأت تجادل مؤخراً بانّ اللاعب التركي يبحث عن مصالحه من خلال تحركاته السياسية او العسكرية، لكن لا تعارض في الغالب في الهدف النهائي الذي يريده الجانب التركي والمعارضة السورية. فالمعارضة لديها مصلحة في ان تدفع تركيا هذه الميليشيات خارج الحزام الشمالي، لانّ من شان ذلك أن يتيح إعادة جزء كبير من أهالي المناطق الشمالية من العرب، الأمر الذي يساعد فيما بعد على تثبيت السيطرة لمصلحة المعارضة، وكذلك الامر فيما يتعلق بتوسيع رقعة ونسبة الأراضي التي يسيطرون عليها.
بالنسبة الى أنقرة، فانّ الميليشيات الكردية المدعومة أميركيا، التي تعتبر فرعاً سورياً لحزب العمّال الكردستاني المصنف إرهابيا في تركيا، تشكّل خطراً حقيقياً على الأمن القومي، ولذلك فهي ترى أنّ هناك حاجة لتطهير المناطق المحاذية للحدود التركية منها، بالإضافة الى وقف إمداد واشنطن لهذه الميليشيات بالأسلحة والعتاد وسط معلومات تشير الى انّ الولايات المتّحدة قامت بإمداد الميليشيات بأكثر من ٤٥٠٠ شاحنة من الاسلحة كما أشار الرئيس التركي.


أما واشنطن، فهي تنظر الى الميليشيات الكردية المذكورة على انّها موطئ القدم الأخير للولايات المتّحدة في سوريا، ولذلك فمن الصعب تصوّر تخلي أميركا عنها في هذه المرحلة بالتحديد، وهو ما يعني انّ عوامل الاصطدام بين أنقرة وواشنطن ستبقى قائمة، لكن نتيجة المعركة ستحددها موازين القوى والتحالفات على الأرض. إذا ما كان وضع المعارضة السورية المسلحة متقدما، واذا ما حافظت انقرة على علاقات متماسكة مع روسيا وإيران خلال المعركة، فمن المتوقع لها ان تحقق تقدما في أجندتها بخصوص عفرين. سيكون هناك أثمان بالتأكيد، لكن المهمّة ليست بالمستحيلة الا اذا عارضت موسكو مثل هذه العملية او عملت على عرقلتها، حينها لا يمكن للجانب التركي ان يواجه معارضة أميركا وروسيا معا.