سيد محمود 

امتدت الدورة التاسعة والأربعون لمعرض القاهرة الدولي للكتاب من 27 كانون الثاني (يناير) الماضي إلى 10 شباط (فبراير) الجاري، من دون أن يتمكن مَن تابعَها مِن الوصول إلى تقويم عادل لبرنامجها المصاحب الذي فاق في غزارته أي دورة سابقة. إذ كانت الفجوة كبيرة بين إقبال جماهيري ملحوظ، بسبب تحسن الطقس، وبين ضعف التجهيزات اللوجيسيتية في «أرض المعارض»، التي تحوّلت إلى ساحة تضج بـ «فوضى غير خلّاقة»، ولم تعد مناسبة لمعرض يوشك أن يحتفل بيوبيله الذهبي. وبدا واضحاً أن حماس رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، الجهة المنظمة للمعرض، هيثم الحاج علي، لمشاركة شبابية واسعة، لم يمنع من إعادة تقديم الوجوه القديمة التي لا تزال تعيد إنتاج خطابها المتكرر بيقين راسخ وترغب في الاستيلاء على المنصات واغتصاب اللحظة الراهنة القائمة على متغيرات كثيرة تنتصر لـ»الديموقراطية الرقمية»، وما تتيحه من خيارات تنفر من أي نمط سلطوي يمثله «المثقف التبشيري القديم». وخلَت غالبية الندوات من الجمهور، ربما لأنها كانت تقام في قاعات وخيام بعيدة مِن أجنحة العرض التي كانت تعج بالرواد، ما كرّس الانطباع بأن الندوات تحولت إلى «صيغة نخبوية» ضد الطابع الجماهيري الكرنفالي للمعرض.

المجد للفوضى

ويحتاج التقويم المنصف لإجراء فصل اضطراري بين إيجابيات كثيرة شملها المعرض، وسلبيات أهدرت جهود العاملين بإخلاص على تطويره. ومعظم تلك السلبيات تتحمل مسؤوليته هيئة المعارض، المالكة لساعة العرض والمسؤولة عن انتشار مكثف للباعة الجائلين، فضلاً عن غياب خدمات النظافة أو العلامات الإرشادية، إلى جانب الزحف العشوائي والسرطاني للمطاعم الشعبية التي استولت تماماً على المساحات الخضراء. في حين تتحمل هيئة الكتاب وحدها الأمور المتعلقة بأوضاع الكتاب داخل الأجنحة أو خيام العرض وبعضها لم يكن مؤهلاً تماماً. كما تتحمل الهيئة مسؤولية البرنامج الثقافي الذي افتقد إلى حال السجال التي ميّزت دورات سابقة. وباستثناء ما تضمّنه حديث المرشح الرئاسي السابق عمرو موسى خلال حفلة توقيع مذكراته، التي أثارت جدلاً واسعاً، مِن تعليقات بعضها ارتبط بالوضع السياسي الراهن، مرّت الندوات هادئة ومن دون «فرقعات إعلامية».

وحمل الإقبال الجماهيري الذي جاوز أربعة ملايين متابع أكثر من رسالة إيجابية، فهو أولاً يعكس شعوراً طاغياً بالاستقرار الأمني، ويؤكد ثانياً، أن زيارة المعرض تحوّلت إلى طقس اجتماعي وتقليد سنوي ثابت على جدول أعمال المصريين من دون أن ينعكس ذلك بالضرورة على حجم المبيعات.

 

انتصار الشباب

وكشف توافد الشباب بكثافة أن الكتاب الورقي لا يزال في مكانة متقدمة رغم التطورات التكنولوجية وما يقال عن تفشي الثقافة الرقمية في السنوات الأخيرة، فهناك شواهد على أن مواقع التواصل الاجتماعي أسهمت كثيراً في الترويج للكتب. وانعكس شغف الأجيال الشابة بالكتب ومؤلفيها، ليس فقط في حجم الحضور، إنما في نسب وجوده في بعض حفلات التوقيع التي شهدت إقبالاً استثنائياً، وعلى رأسها حفلة توقيع رواية الكويتي سعود السنعوسي «حمام الدار». كما انعكس تمثيل الشباب في الإقبال على دور نشر تخصصت في «أدب الرعب» الذي يلقى رواجاً لافتاً، وبعضها أوجَد مكانته في العالم الافتراضي أولاً، قبل أن يتجلى على أرض المعرض واقعياً.

ومن ناحية أخرى، أكد التحسن النسبي في مبيعات الكتب هذا العام أن القراء تمكّنوا من تجاوز صدمة تعويم سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار، التي أثّرت سلباً على مبيعات العام الماضي، بحسب مدير مكتبة «تنمية» خالد لطفي، الذي أوضح أن وجود طبعات مشتركة بين ناشرين عرب وناشرين مصريين قد يساهم في الوصول إلى أسعار عادلة وهي خطة انتهجتها المكتبة الناشطة في توزيع الكتاب العربي، كما لجأت إليها الدار «المصرية اللبنانية» بتعاونها مع الدار العربية للعلوم. ولا يزال الكتاب المدعوم في مصر يلعب الدور الأكبر في حسم المنافسة لصالحه، إذ تركّز الإقبال على البيع في شكل رئيس على أجنحة «مكتبة الأسرة» والمركز القومي المصري للترجمة والهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة. عربياً، لا تزال الروايات التي تنشرها دار «الآداب» البيروتية، في الصدارة مع تقدم لافت لدار «المتوسط»، التي تراهن على الشعر والترجمة أمام الدور الراسخة وعلى رأسها «الساقي» و «المدى». ومصرياً، رسّخ بعض دور النشر وجوده، مثل «الدار المصرية اللبنانية» التي توسعت في نشر الأعمال الروائية، ودار «العين» التي تواصل تجربتها مع نشر أعمال المؤلفين العرب. كما بدأت دور أخرى في التعافي مثل دار «الشروق» التي عادت بثلاثة مؤلفات جديدة للمصري محمد المخزنجي، ودار «ميريت»، بينما تقدمت دار «العربي» خطوات بارزة في مشروعها للأدب المترجم هي ودار «كتب خان» التي راهنت بوضوح على تميز ترجمة أنجزها ياسر عبداللطيف وأحمد مجدي (هرمس) لمجلد ضخم تضّمن رسائل «فان غوغ» برغم الانتقادات الموجهة إلى سعره المرتفع.

محاصرة التزوير

وهذا العام، تمكّنت السلطات المصرية من محاصرة ظاهرة تزوير الكتب العربية، أو على الأقل حالت دون وجودها بكثافة السنوات السابقة، وهو أمر ردّه البعض إلى جهود اتحاد الناشرين العرب في هذا الصدد. وفي المقابل راهن المزورون على الكتاب الأجنبي الذي كان ضحية مثالية لهذه الدورة بحسب الأمين العام لاتحاد الناشرين المصريين عضو اللجنة العليا للمعرض شريف بكر، الذي رأى أن الناشر الأجنبي «ليست لديه أدوات لملاحقة المزورين أو التنسيق مع الاتحاد لمحاصرتهم»، معتبراً أنها «مسألة شائكة تسيء كثيراً إلى سمعة المعرض».

وعلى صعيد النجاحات تميّز البرنامج المهني للمعرض بالتطرق إلى موضوعات جديدة لم يطرحها أي معرض عربي آخر، وعلى رأسها قضايا «العلاقة مع أمازون» ونوادي القراءة التي تنامت في مصر أخيراً، أو نشاطات «البوك تويبر»، حيث تخصّص بعض الشباب في الترويج للكتب عبر اليوتيوب بمبادرات خاصة، يبدو أن تأثيرها قد يدفع بها لتأخذ المنحى الربحي في القريب العاجل.

وبدا واضحاً أن الكتاب الصوتي في طريقه لأن يجد مكاناً على الصعيد العربي في القريب العاجل، حيث أشار ممثل شركة «ستوري تل» التي تعمل في هذا المجال المهندس علي عبدالمنعم إلى أنه وجد قبولاً واسعاً لدي طرح الفكرة على القراء والناشرين. وجاءت المشاركة الجزائرية هادئة وتميّزت بطابعها الاحتفالي، باستثناء الندوات التي شارك فيها واسيني الأعرج الذي وقّع أيضاً روايته الجديدة «ليالي إيزيس كوبيا» وسط حضور جماهيري لافت.

وعطفاً على برامج الندوات مرّ الاحتفال بالكاتب عبدالرحمن الشرقاوي كشخصية تكريمية للمعرض من دون أسئلة كبرى أو مفاجآت تتعلق بإعادة نشر أعماله الممنوعة مِن التداول لأسباب رقابية من طرَف بعض المؤسسات الدينية. وفي واحدة من ندوات تكريمه، قال الأكاديمي المصري الرئيس السابق للهيئة العامة للكتاب أحمد مجاهد، إن أعمال الشرقاوي، لم يكن يُطبع منها إلا ما هو ديني فقط، ومسرحيتان من بين أعماله المسرحية كلها. وأعلن مجاهد الذي كان الرئيس السابق لمعرض الكتاب أن أعمال عبدالرحمن الشرقاوي، وخصوصاً مسرحياته وجدت للتو في المعرض، ولم تكن موجودة من قبل، مضيفاً: «أعرف ما أقول جيداً، وأنا متخصص في المسرح، والدارسون والباحثون لم يجدوا من أعماله المسرحية إلا مسرحيتين فقط».

 

محنة الشعر

وفي السياق وجّهت انتقادات كثيرة للأمسيات الشعرية التي تميّزت بكثافة المشاركة من الأجيال الجديدة وغياب الأسماء الراسخة عربياً ومصرياً، وانتقد الشاعر حسن طِلب على صفحته بـ»فايسبوك» اختلاط الحابل بالنابل فيها- على حد وصفه- وطغى الغث والركيك والمبتذل ما لا علاقة له بالشعر.

وقال طِلب: «لا أعرف وسيلة تدفع الجمهور إلى (القرف) من الشعر والشعراء أنجع من تلك التي نفّذها رئيس الهيئة ومعاونوه، إذ لم يكتفوا بنفي الشعر خارج القاعة الرئيسة إلى مخيمات هائجة مائجة يحاصرها الضجيج من كل صوب، بل خطّطوا لحشد مئات الشعراء عبر برنامج صاخب قدم الكم على الكيف وانتصر للثرثرة السقيمة على القيمة».

وتحسّر صاحب «زمان الزبرجد» على زمن الرئيس السابق للهيئة المصرية العامة للكتاب سمير سرحان، معتبراً أن تدهور أنشطة المعرض وأمسياته الشعرية خصوصاً، هو مجرد مظهر من مظاهر التدهور في هيئة الكتاب. وتبنى الشاعر الرائد أحمد عبدالمعطي حجازي ذات الموقف معتذراً عن المشاركة في أمسية شعرية خصّصت له وحده في افتتاح الأمسيات ونقلت عنه تصريحات صحافية عبّر فيها عن الأسف، «لأن الترتيبات غير لائقة»، ولفتَ إلى مخاطر غياب التنسيق مع «بيت الشعر»، الذي يتولى رئاسته، مشدداً على أن المعرض حدث عظيم، وينبغي على وزارة الثقافة التي تقوم على مؤسسات عدة أن تقوم بالتنسيق اللازم بين مؤسساتها، في حين دافَع رئيس هيئة الكتاب عن برنامج الأمسيات الشعرية التي تمّ نقلُها إلى خيمة مستقلة، معتبراً أن هذا التقليد الجديد محاولة من إدارة المعرض لإخراج الشعر من نخبويته، ليكون قريباً من الجمهور في المعرض، ويبعد عن التشوش الذي ينتج من الندوات المجاورة للقاعة الرئيسة». إلا أن واقع الأمر هو أن تلك الخيمة المستحدثة أنشئت في مكان قريب جداً من المسرح المكشوف، فكان صخب الغناء والموسيقى، يغطي على صوت الشعر، ما دفع شعراء كثيرين إلى رفض تلبية الدعوة لإلقاء قصائدهم.

الأزهر في الميدان

ومن أبرز ظواهر معرض هذا العام الجناح الكبير الذي تم تخصيصه لمؤسسة «الأزهر» ضمن محاولات التقارب بين المؤسستين الدينية والثقافية. وبدا لافتاً في هذا الصدد نجاة المعرض من الأزمات الرقابية وحرص «الأزهر على إبراز نشاطاته الدعوية بما فيها الاحتفال بالفن، إذ استضاف المسرح المكشوف التابع للجناح عرضاً مسرحياً له طابع تعليمي بعنوان «شهيد الوطن»، لـ «رابطة أزهري من أجل مصر»، كما شهد بعض حفلات الإنشاد الديني والتواشيح.

ويبقى القول إن الجانب الإيجابي الأبرز في المعرض كتظاهرة ثقافية، جاء من خارج الإطار الرسمي، إذ توافد على أجنحة العرض أكثر من 20 مبدعاً عربياً بارزاً، جاءوا على نفقتهم الخاصة، ومنهم حسن بلاسم وأنعام كجه جي وهاشم شفيق وصمويل شمعون (العراق) رشا الأمير (لبنان) وخليل وسلوى النعيمي (سورية) وربعي المدهون (فلسطين) ومروان علي وأنيس الرافعي (المغرب).

وتبقى الملاحظة الأهم وتتعلق بعودة الناشرين السوريين للمشاركة (150 ناشراً)، كما عاد التمثيل الرسمي السوري بقوة تحت رعاية «اتحاد الكتاب العرب»، متمثلاً في حضور رئيس اتحاد كُتاب سورية نضال الصالح، ورئيس اتحاد الناشرين السوريين هيثم حافظ.