مصطفى السعيد

توجه الجيش السورى نحو مدينة عفرين، ليضع حدا لزحف القوات التركية نحو المدينة الوحيدة ذات الأغلبية الكردية فى الشمال السوري، وسط ترحيب أكراد عفرين بدخول الجيش السورى وحمايتهم من الأطماع التركية، وهو تحول له مغزى وتداعيات مؤثرة على الصعيدين العسكرى والسياسى للأزمة السورية، فأكراد سوريا المتحالفون مع الولايات المتحدة خابت آمالهم فى تحرك أمريكى لإنقاذ عفرين، بينما واصلت قوات الجيش التركى والجماعات المسلحة السورية المدعومة من تركيا الزحف على مناطق وجود الأكراد فى شمال غرب سوريا بدعوى منع قوات الحماية الكردية من إنشاء كيان كردى مستقل يهدد أمن وتماسك تركيا.

كانت روسيا قد اقترحت على قوات الحماية الكردية فى عفرين دخول الجيش السورى إلى المدينة قبل اندلاع القتال مع الجيش التركي، لكن الأكراد رفضوا فى البداية، اعتقادا بأن تركيا لن تجرؤ على احتلال المدينة، وأنهم قادرون على حمايتها، خاصة مع الدعم العسكرى الأمريكى لأكراد سوريا، لكن الولايات المتحدة فشلت فى إقناع الرئيس التركى أردوغان بعدم دخول قواته إلى المناطق الكردية، كما لم ترسل أى مساعدات عسكرية للأكراد، ولم يفتر عزم أردوغان على التقدم رغم الخسائر الكبيرة التى تمثلت فى إصابة عشرات الدبابات وسقوط عدة مروحيات من طراز اباتشى ومقتل عشرات الجنود والضباط، بل زاد استهدافه لمواقع المدنيين بشراسة، ومع ارتفاع عدد الضحايا من المدنيين والمسلحين الأكراد حدث تحول فى موقف قوات الحماية الكردية، التى أعلنت قياداتها أنها جزء من الدولة السورية، وطالبت بدخول الجيش السورى لحماية المدينة من الغزو التركي. ليصيب الجيش السورى أكثر من عصفور بحجر واحد، فهو قد أعطى درسا جديدا للأكراد بأنه القوة الوحيدة القادرة على حمايتهم، وهو ما سينعكس على المشهد العسكرى فى شرق الفرات، حيث يشكل الأكراد العمود الفقرى لقوات سوريا الديمقراطية التى شكلتها الولايات المتحدة لتكون أداتها فى السيطرة على منطقة شرق الفرات السورية الغنية بالغاز والنفط وثرواتها الزراعية والمعدنية، وأهم أهدافها الحد من وجود قوات من الحرس الثورى الإيرانى وحزب الله اللبنانى فى سوريا، خاصة فى مناطق الجنوب المتاخمة للحدود مع إسرائيل، ليضع الجيش السورى حدا لأوهام أكراد سوريا فى تحقيق مكاسب سياسية وعسكرية بدعم أمريكى ثبت أنه لا يجدى فى الأزمات، وأن الوعود الأمريكية سرعان ما تتبدد، مثلما حدث لأكراد العراق الذين فقدوا الكثير من مكاسبهم عقب الاستفتاء على استقلال كردستان العراق، وها هو المشهد يتكرر فى عفرين، ليتعمق الشرخ ويتبدد ما تبقى من ثقة فى القوات الأمريكية الموجودة فى شرق العراق، والتى ستصبح عاجزة عن تحقيق أى من أهدافها فى سوريا، بينما يواصل الجيش السورى المنتشى بإسقاط الطائرة الإسرائيلية إف 16 تقدمه فى إدلب، ليبسط سيطرته على آخر المواقع الرئيسية للجماعات التكفيرية.

لا يبدو أن تركيا ستحاول عرقلة انتشار الجيش السورى فى المناطق الكردية فى عفرين وما حولها، بل قد تراه مخرجا من تورطها فى مستنقع باتت تدرك أنه بالغ الصعوبة والتعقيد، وأن تكلفته باهظة، قد لا تتحمل تركيا دفع أثمانها، فى ظل الخسائر الكبيرة التى لحقت بقواتها فى الخطوات الأولى لتوغلها نحو عفرين، وستكتفى بأن وجود الجيش السورى سيكون ضمانة بعدم تشكيل كيان كردى مستقل، مقابل أن تدفن ما تبقى من طموحات التوسع، فى الوقت الذى تعمقت فيه الهوة بين تركيا والولايات المتحدة، وهو ما اتضح خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكى ريكس تيلرسون إلى أنقرة، ولم ينجح اللقاء بينه وأردوغان فى رتق العلاقات المتدهورة بين أمريكا وتركيا، خصوصا فيما يتعلق بتسليح الولايات المتحدة لقوات الحماية الكردية فى سوريا، التى تصنفها تركيا جماعة إرهابية، وتعتبرها الخطر الرئيسى على أمنها القومي.

وجاءت زيارة العاهل الأردنى عبد الله بن الحسين إلى روسيا، ولقاؤه الرئيس بوتين لتدعم جهود وضع حد للأزمة السورية التى أرهقت الجميع، وأعرب ملك الأردن عن دعمه لخطوات وقف التصعيد فى جنوب سوريا، مبتعدا خطوة واضحة عن التحالف الأمريكى الذى يبدو أن مخططاته تتعثر، حتى يتجنب الأردن دفع فواتير التخبط الأمريكى فى المنطقة، وإيجاد ممر لتحسين علاقته مع التحالف الروسى الرابح والمتزايد النفوذ فى مختلف قضايا المنطقة.

هكذا يجسد المشهد السورى الوضع الإقليمى والدولى المتأزم، والذى تصر فيه الولايات المتحدة على تحقيق انتصار عسكرى لا تمتلك مقومات نجاحه، ولا مخرجا سلميا لتناقضات بالغة التعقيد والعمق، ولم يعد لديها وسيلة إلا العمل على تمديد الأزمات، حتى تجد وسيلة جديدة تستعيد بها مكانتها العسكرية والدبلوماسية الآخذة فى التراجع، بينما تدفع دول وشعوب المنطقة فاتورة السياسات المتخبطة والأطماع المتزايدة من دمائها وثرواتها.