سمير عطا الله

 يتردد دائماً أن الإمبراطورية العثمانية منعت دخول المطابع إلى أراضيها خوفاً من أثر الكتاب والكلمة المطبوعة. ولكن أوروبا سبقتها إلى ذلك. ومارست أميركا الرقابة كما مارسها الاتحاد السوفياتي، ولكن طبعاً ليس بالدرجة نفسها. وكانت أشهر قصص الرقابة في روسيا مع الشاعرة الكبيرة آنا أحمدوفا، التي أعدم ستالين زوجها، وأرسل ابنها إلى السجن. فصارت تكتب الشعر على ورقة، وتستظهر القصيدة غيباً، ثم تمزق الورقة لكي لا يبقى من الشعر أثر عندما تحضر الشرطة السرية للتفتيش. وعندما خشيت أن تضيق ذاكرتها، أصبحت تستعين بصديقاتها من المغنيات والممثلات المدربات على الحفظ. وعندما قام المفكر البريطاني أشعيا برلين بزيارتها في بطرسبرغ، وجد أنها تعيش في منزل واحد مع بضعة أفراد بينهم زوجها السابق. ودامت سهرته عندها حتى الصباح، ولم يكن لديها ما تقدمه له سوى رأس من البطاطا المسلوقة، وكان الفقر يغمر المكان.

ذلك المساء ألقت أمامه أشهر قصائدها «النشيد الجنائزي»، التي بقيت تدور في روسيا من بيت إلى بيت من دون أن تطبع إلى ما بعد وفاة ستالين بأكثر من عشرين عاماً. وكان المنشق الروسي الآخر ألكسندر سولجنتسين أكثر حظاً بادئ الأمر، إذ سمح بطبع كتبه التي لقيت على الفور انتشاراً مذهلاً. كان هدف الحكومة من السماح الحؤول دون أن يذهب إلى «النشر الخارجي» الذي غمر البلاد، وسوف يقال فيما بعد إنه كان أحد الأسباب الرئيسية في انهيار الاتحاد السوفياتي.
التقت أحمدوفا سولجنتسين عام 1962 بعد 17 عاماً على موت الرعب الأكبر. وروى لها كيف أمضى 8 سنوات في السجن لأنه أتى على ذكر ستالين بطريقة تحط من قدره، في رسالة كتبها إلى صديق له. ووصل الأمر بالكتّاب والمفكرين إلى أنهم أصبحوا يخشون من أن تدخل الشرطة السرية إلى أدمغتهم وأحلامهم.
أخيراً، انتقل شعر أحمدوفا من الذاكرة، كما في أيام الجاهلية وحمّاد الراوية، إلى الورق والحبر. وخارج روسيا دارت المطابع، وخصوصاً في ألمانيا، تحمل شعرها الحزين والجميل. لكن حتى مجيء غورباتشوف، ظل الكتاب غير المرضي عنه يعامل كالوباء أو المخدرات. وأهم ما أذكر من رحلتي إلى موسكو عام 1972 أن ضابط الجمرك الذي عليه علامات الفودكا، طلب مني أقلامي. ربما لكي يكتب الشعر.