مصطفى السعيد

يتحرك العالم بخطوات متسارعة نحو صدام عالمى واسع، فقد رأينا فى الأيام الأخيرة اجتماعا غير مسبوق لأربع دول عظمى هى الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا لإدانة روسيا بزعم استخدامها سلاحا كيماويا من أسلحة الدمار الشامل فى قتل جاسوس روسى سابق. كانت أفرجت عنه منذ سنوات فى صفقة تبادل مع بريطانيا، وبعيدا عن ملابسات الحادث الغامض، فإنه يؤشر لمدى سخونة الصراع المحتدم بين الولايات المتحدة وحلفائها ضد كلا من روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران، وكان مجلس الأمن قد اجتمع قبل أيام لمحاولة استصدار قرار يدين كل من روسيا وسوريا بخرق قرار الهدنة فى غوطة دمشق الشرقية، وفى كلتا الجلستين شاهدنا كيف وصلت الأمور إلى حد توجيه أقسى العبارات والاتهامات، وخارج أروقة مجلس الأمن كانت المعركة السياسية أشد سخونة. وتساقطت قذائف العقوبات على القيادة الروسية من الولايات المتحدة وحلفائها، بينما كان وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف يؤكد اعتزام روسيا مساعدة الجيش السورى فى القضاء على كل الإرهابيين فى غوطة دمشق وغيرها من أماكن وجود الإرهابيين، فى تحد صارخ للإرادة الأمريكية، التى كانت قد هددت باستخدام القوة بشكل منفرد ضد الجيش السورى فى حالة عدم صدور قرار من مجلس الأمن بوقف فورى لإطلاق النار على الجماعات المسلحة فى الغوطة، لكن قيادة الجيش الروسى توعدت بالتصدى لأى هجوم أمريكى على سوريا، وأجرت مناورات ناجحة على صواريخ تفوق سرعة الصوت 10 مرات، وأرسلت أول سرب من طائراتها المتطورة سوخوى 57 إلى قاعدة حميميم الروسية فى سوريا، وخرجت تسريبات عن إرسال أول إنتاج روسى من منظومة الدفاع الصاروخى إس 600 إلى سوريا، والتى ظلت قدراتها سرية حتى الآن، وتفوق نسختها من منظومة إس 500 الأكثر تطورا فى العالم.

لم تكن الصين بعيدة عن الأحداث الخطيرة والمتسارعة، فقد تخلى الرئيس الصينى عن استخدام العبارات الدبلوماسية، ودخل ساحة العراك السياسى بشكل مباشر ونادر، مشيرا إلى ارتباط الصين مع روسيا فى تحالف قوي، وأن الصين سترد بقوة على الحرب التجارية التى تشنها الولايات المتحدة، وخرقت فيها اتفاقية التجارة الحرة، بفرض قيود جمركية على واردات مهمة، والتى قالت إنها سوف تتسع لتشمل الكثير من السلع الصينية التى تستوردها الولايات المتحدة.

هذه الأجواء المفعمة بالتحدى والمضى فى الصدام تؤكد أن الولايات المتحدة ليست مستعدة للتراجع عن احتكارها القرار الدولي،، بينما الصين وروسيا عازمتان على إنهاء الهيمنة الأمريكية مهما تكلف الأمر، وتذكرنا هذه الأجواء بالأوضاع التى سبقت الحربين العالميتين الأولى والثانية، ففى الحرب العالمية الأولى برزت كل من ألمانيا وإيطاليا كدولتين قويتين بعد تحقيق وحدتيهما، تحدوهما الأمل فى الحصول على مكانة تناسب قوتهما، بينما كانت كل من بريطانيا وفرنسا تقتسمان العالم، وترفضان أن يشاركهما أحد فى تسييره، وجرى التقارب بين بريطانيا وفرنسا ومعهما النمسا لمواجهة المارد الألمانى الصاعد بتطوره الاقتصادى والعسكرى المقلق، والمتحالف مع إيطاليا وروسيا.

وكانت دول البلقان فى أوروبا فى حالة تشرذم وانقسام واستقطاب تشبه أوضاع المنطقة العربية حاليا، ولهذا كانت المسرح المناسب لانطلاق شرارة الحرب العالمية الأولي، بحادث اغتيال ولى عهد النمسا فى سراييفو. كما يذكرنا إفراط الولايات المتحدة فى تطبيق عقوبات اقتصادية، وشن حرب تجارية بمعاهدة فرساى التى فرضت عقوبات مذلة على الشعب الألمانى، واقتطعت أجزاء من أراضيه وسواحله، وقيدت صناعاته وجيشه، مما ألهب الروح القومية وتسبب فى صعود النازية.

إن صعود اليمين المتطرف فى الولايات المتحدة وأوروبا يؤشر إلى عمق الأزمة، لكن هذا اليمين العالى الصوت عاجز عن إيجاد حلول حقيقية لتلك الأزمة، ولا يجيد سوى بث المزيد من التعصب القومى وكراهية الأجانب، بما يهيئ لشن الحروب، لكن الولايات المتحدة تخشى هزيمة قاسية إذا ما أقدمت على صدام واسع، فقد خسرت كل حروبها السابقة، منذ تدمير مقر المارينز فى لبنان عام 1983 والخروج المهين من لبنان وبعده أفغانستان والعراق وأخيرا التعثر فى سوريا، ولهذا اعتمدت الحروب بالوكالة مع الحروب الدعائية والسياسية التى برعت فيها، حتى إن التفوق الجوى الذين كانت تتباهى به أصبح مهددا بالسوخوى 57 ومنظومات صواريخ إس 300 و400 و500 وأخيرا 600، والثقة الروسية فى قوتها العسكرية بفضل القاعدة الصناعية والبحثية الآخذة فى التطور السريع، مع اندفاعها إلى الأمام اعتمادا على الغاز الروسي، وكذلك الصين صاحبة أكبر فوائض مالية، واقتصادها الأكثر نموا، والتى تبنى حاملة الطائرات الثالثة لتنهى التفوق الأمريكي، وإذا راهنت أمريكا على القوة العسكرية لإبقاء هيمنتها فلن تجنى هى والعالم سوى الخسائر الفادحة.