محمد السعيدي

تجديد أمر الدين سواء أكان كلياً أم جزئياً لابد أن يأتي وفق منهج السلف عليهم رضوان الله لأنه سبيل المؤمنين التي أمر الله تعالى باتباعها، فالإيمان مُتَيقَّن فيهم مظنون في غيرهم

الأخذ بمنهج السلف الصالح لا غير هو تجديد دين الأمة الذي أخبر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه بقوله: (يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها)، والمختار من كلام العلماء حول هذا الحديث: أن المجدد لا يشترط أن يكون واحداً في كل مئة عام؛ ولا يشترط أن يكون عالما؛ بل قد يقيض الله تعالى عدداً من أهل العلم أو الرياسة والحكم أو يجتمع الوصفان معاً، والمهم هو أن ثمرة عملهم إحياء ما يندرس أو شيء مما يندرس من معالم الدين ودعوة الناس إليه، وتصحيح ما يلتبس حوله من مفاهيم؛ وقد اجتهد بعض العلماء في محاولة تعيين هؤلاء المجددين على رؤوس القرون على اعتبار أن المجدد لا يكون إلا واحداً، لكن ذلك مما لا يُسلم لهم به لعدم الدليل الخاص للعدد.
والدعوة إلى منهج السلف قد تكون كلية، بمعنى أن تكون الدعوة لإبطال كل البدع التي ظهرت في الدين، وإحياء طريقة السلف كاملة في العمل بنصوص الشرع في توحيد العبادة والربوبية، وفي أسماء الله تعالى وصفاته، وفي العبادات والمعاملات وسائر أبواب الفقه، وإحياء علوم الشريعة والحث عليها وبعث ما خمل منها؛ وذلك كما حصل لابن تيمية رحمه الله [تـ728] ومحمد بن عبدالوهاب [تـ1206]، فقد جددا من الإسلام ما اندثر في عهديهما من العقيدة والقول والعمل، وزاد الله النعمة على الشيخ محمد بن عبدالوهاب أن قيض الله لدعوته من يقيم الدولة على أساسها، وهو الإمام محمد بن سعود [تـ1179] رحم الله الجميع.
وقد تكون الدعوة إلى منهج السلف جزئية، بمعنى أن يُقَيِّضَ الله للأمة في عصرٍ من يحيي أمراً من أمور الاعتقاد قد خَفِيَ أو اختلطت به البدعة وليس له في غيره كبير فضل على من سواه من علماء عصره كأبي حامد الإسفراييني [تـ409] وأبي إسماعيل الهروي [تـ481] رحمهما الله، فقد ظهرا في وقت افتتان الناس بتأويل الصفات، فوقفا في إحياء عقيدة السلف في هذا الخصوص موقفاً مشهوداً؛ وكما حصل من الأمير نورالدين زنكي [تـ569]، إذ أعز الله به أهل السنة بعد شيوع بدعة الرفض حتى اختفى الأذان بحي على الفلاح، وحل محله قول المؤذن حي على خير العمل، فأبطل هذا الأمير تلك البدع، ثم أقام الجهاد ضد الصليبيين، وجاء ما فعله صلاح الدين الأيوبي بعده فكان حسنة من حسناته. 
المهم أن تجديد أمر الدين سواء أكان كلياً أم جزئياً لابد أن يأتي وفق منهج السلف ـ عليهم رضوان الله ـ لأنه هو سبيل المؤمنين التي أمر الله تعالى باتباعها في قوله سبحانه ﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا﴾ [النساء: 115]، وأَخَصُّ من يصدق عليهم وصفُ المؤمنين هم السلف من صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، فالإيمان مُتَيقَّن فيهم مظنون في غيرهم؛ فكانت الآية دليلاً على وجوب اتباع منهجهم، وأن مخالفتهم مُشَاقَّة للرسول ـ عليه الصلاة والسلام.
المشكلة اليوم تظهر في سؤالين يُطْرَحَان على سبيل الاعتراض كلما تحدثنا عن السلفية ومنهج السلف؛ الأول: هل للسلف منهج واحد أم عدة مناهج؟ والسؤال الآخر: عن أي سلفية نتحدث وأمامنا سلفيات يقاوم بعضها بعضا؟
والجواب عن السؤال الأول: نعم للسلف منهج واحد لا مناهج متعددة؛ ووحدة المنهج لا تعني وحدة القول في المسألة الواحدة إذا كانت مسالك النظر للوصول إلى رأي فيها داخل ضمن هذا المنهج في التلقي وتفسير النصوص والفهم العام والخاص للشريعة؛ ويمكن تلخيصه في نقاط لعل أبرز ما يمكن ذكره هنا: كمال الشريعة وعدم قابليتها للزيادة أو النقص؛ والنصوص كافية لحاجات العباد، وفهمها مقصور على طرائق العرب في الفهم، فلا تُفهم النصوص وفق معان محدثة للألفاظ، وإنما وفق ما ثبت أنه معنى للفظ وقت نزول الوحي، وإذا تعددت المعاني جاز الخلاف، وصح الترجيح، وإذا لم يتعدد المعنى كان النص قطعيا في دلالته؛ ولا تُصْرَف معاني النصوص عن ظاهرها إلا بداعٍ، وإنَّ داعي التأويل إن لم يكن له دليل شرعي فهو الهوى والتشهي اللذان يحرم الانصياع لهما؛ والأدلة الإجمالية من غير الكتاب والسنة إن كان للاستدلال بها أصل فيهما فإنه يُعْمَل بها في أفراد المسائل، كالعرف وسد الذريعة، وإن لم يكن لها أصل فيهما حرم العمل به كالذوق والإلهام وعصمة غير النبي ـ صلى الله عليه وسلم؛ والصحابةُ حجة فيما أجمعوا عليه من الأقوال فلا يجوز خلافهم، كما أنهم حجة فيما نقلوه عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا يجوز تكذيبهم؛ وحرمة منازعة الأمر أهله ووجوب لزوم الجماعة والسمع والطاعة لمن ولاه الله الأمر.
فهذه الأمور بعض معالم هذا المنهج الذي لا يصح القول بتجديد الدين أو خطابِه إلا إذا كان هذا التجديد محكوماً بها؛ وقد لخصها كثير من علماء القرون المفضلة في عقائدهم المختصرة والمبسوطة؛ وجمع أحد الباحثين ما وصل إلينا من المختصر منها، فجاءت أكثر من ثمانين رسالة لعلماء القرون المفضلة، تختلف في ألفاظها وتتفق معانيها؛ فمن يزعم اختلاف منهج السلف فليرجع إليها.
أما السؤال الآخر فجوابه: أن من كان خلافه لا يخرجه عن هذا المنهج الذي لخصت بعضه وبسطه علماء القرون الثلاثة في عقائدهم فهو على منهج السلف، والخلاف معه خلاف تنوع لا تضاد؛ ومن خالف شيئاً منها ممن ينتمون إلى السلفية في فرع أو نازلة فقد خرج عن منهج السلف في ذلك الفرع وتلك النازلة، وبقي له الحظ من اتباعهم في قوله بأصل موافقتهم؛ أما إن خالفهم في نبذ أصولهم أو نبذ أصل واحد منها فليس سلفياً وإن أطال الزعم في ذلك؛ كمن نبذ البيعة وخرج عن الجماعة، وكمن اعتمد التأويل في أسماء الله وصفاته، وكمن فسر النصوص بما ليس من معهود العرب في كلامها.
والعجيب أن من يسألون هذا السؤال على سبيل الإنكار والعيب على السلفية هم أشد افتراقاً وأكثر تباينا من المنتسبين إلى منهج السلف؛ فالأشاعرة مثلاً، هل هم أتباع المتقدمين أم أتباع المتوسطين أم أتباع المتأخرين؟
وهل الصوفية هم من سار على طريقة الجنيد وأبي يزيد البسطامي، أم من سار على طريقة الحلاج وابن عربي، أم من سار على منهج جلال الرومي أو التيجاني...
وبين كل هؤلاء من الفروق في الأصول ما يشعر الباحث أنهم مذاهب شتى، وليسوا مذهبا واحداً كما يزعمون!
وكل هذه المشارب التي تبتعد بالعبد عن منهج السلف هي في الحقيقة تبتعد بالبشرية جمعاء عن صفاء الرسالة المحمدية ؛ لأن الأمر كما قال الإمام مالك حين سئل عن الالتصاق بقبر النبي وزيارته كل يوم لأهل المدينة فأجاب بالمنع من ذلك، وعلل فتواه بأنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.