عبده وازن 

من كان يتخيل أن قناة السويس التي افتُتحت رسمياً عام 1869 في عهد الخديوي إسماعيل، والتي استحال إغلاقها عشية حرب العام 1967 شعاراً سياسياً ناصرياً، تملك تاريخاً عريقاً تضرب جذوره في أديم الحضارة الفرعونية؟

يكشف المعرض الضخم، الذي يقيمه معهد العالم العربي ويُفتتح رسمياً غداً، وعنوانه «ملحمة قناة السويس: من عهد الفراعنة إلى القرن الحادي والعشرين»، أسرارَ هذه القناة ويلقي ضوءاً ساطعاً على تاريخها شبه المجهول والحقبات التي اجتازتها هذه القناة التي تصل بين بحرين، هما البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وبين قارات ثلاث وحضارات قديمة.

يمكن وصف هذا المعرض بالحدث الجغرافي والسياسي والتاريخي، نظراً إلى أن قناة السويس هي من الإنجازات البارزة في تراث الإنسانية، ويستحق تاريخها أن يوصف بـ «الملحمي»، كما ورد في عنوان المعرض، بسبب ما شهدت من صراعات ونزاعات.

وقد تجعل التقنيات السينمائية والضوئية والافتراضية الحديثة التي اعتمدها منظمو المعرض في بناء فضائه البصري، الجمهور يحيا لحظة الزيارة وكأنها لحظة واقعية وغرائبية ومدهشة في آن. يشعر الزائرون بأنهم ينتقلون فعلاً بالصورة والصوت من عهد الفراعنة حتى حقبة فردينان دي ليسبس والخديوي إسماعيل، ومن زمن بونابرت إلى حقبة تأميم القناة على يد جمال عبد الناصر. هذه الرحلة الرائعة الممتدة نحو أربعة آلاف عام في التاريخ، تتمثل عبر المعروضات الفريدة التي يضمها المعرض من آثار ولوحات وخرائط ووثائق وصور، تحضر عبْرها أيضاً وجوه الشخصيات النافذة التي صنعت تاريخ القناة، فضلاً عن قصص ونوادر وأحداث بارزة وسَمَتْ تاريخ هذا المكان الرمزي القائم على مفترق طرق بين القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأوروبا، وما تمثل هذه القارات من أبعاد حضارية وبيئية. وهي حضارات تحالفت وتواجهت في هذا الموقع الذي يُعَدّ من أبرز المواقع التاريخية للتبادل المتعدد الغايات بين الشمال والجنوب، بين الشرق والغرب، وبين البشر المتحدرين من جذور تلك القارات. وليس استعراض تاريخ القناة إلا محاولة ناجحة جداً لإبراز معالم النهضة السياسية والاقتصادية والثقافية التي شهدتها إحدى أقدم دول العالم، بل أول دولة في عالم عربي كان في طور التشكل أو التأسس.

والمعرض الذي يتبع مخططاً سينماتوغرافياً، يقترح على الزائر القيام برحلة مباشرة، واضعاً إياه فوراً في لحظات الافتتاح عام 1869، ثم يعود به إلى الماضي عابراً مراحل نشأة هذه الملحمة والحقبات التي شهدتها. ولا بد للقطع الأثرية والخرائط والمجسمات والصور الفوتوغرافية والأفلام من أن تساعد الزائر في اقتفاء مسالك المعرض، فتبسط أمامه تاريخ مصر وعبره تاريخ العالم. وفي المختصر، ينطلق المعرض الضخم من الحقبة الفرعونية لينتهي إلى أحدث أعمال توسيع القناة التي كان من ضمنها حفر مجرى مواز.

أما المراحل التي يقدمها المعرض بصرياً ووثائقياً، فحملت عناوين رئيسة ذات دلالات تاريخية وسياسية واضحة: بداية الرحلة (1869)... منذ الفراعنة (1850 قبل الميلاد)... نحو مصر الحديثة أو عندما أصبح الحلم واقعاً (1797- 1849)... القناة في قلب الأطماع (1954- 1882)... تطلعات مصر الاستقلالية (1914- 1945)... القناة للمصريين (1956)... عالم جديد يظهر (1956- 1975)... قناة المستقبل (1975- 2018).

يصعب فعلاً اختصار هذه الرحلة التي يرسم المعرض خطوطها الطويلة والمتقاطعة، فهي تمثل حقبات ومراحل من تاريخ مصر أولاً، ثم تاريخ المنطقة، سياسياً وحضارياً وتاريخياً. إنها رحلة في قلب التاريخ والجغرافيا، وفي صميم الخريطة السياسية بصراعاتها وخلفياتها منذ حملة نابوليون (1798) عندما انطلقت فكرة بناء القناة، إلى عهد محمد سعيد باشا، فافتتاحها رسمياً عام 1869 في ظل الخديوي إسماعيل، ثم إلى إغلاق عبد الناصر إياها في بادرة نضالية عروبية، وإلى إعادة السادات فتحها... ثم إلى واقعها الراهن وما تمثل في السياسة المصرية. وقد يكون ما قاله مرة الخديوي إسماعيل يعبر عن الحالة الإشكالية التي تمثلها هذه القناة: «لا يوجد مُدافعٌ عن القناة أكثر مني، لكني أريد أن تكون القناة لمصر لا أن تكون مصر للقناة».

وتجدر الإشارة إلى أن المعرض يستمر حتى آب (أغسطس) في معهد العالم العربي، ثم ينتقل إلى متحف التاريخ في مدينة مرسيليا، ثم ينتقل في العام 2019 إلى متحف الحضارات في القاهرة للاحتفال بالذكرى المئة والخمسين لافتتاح القناة.