عبد الرحمن الحبيب 

تتعرّض طبائع نظم الحكم بالغرب لتحولات تؤثِّر على العالم أجمع.. وقد ظهرت مؤخراً كتب مثل «كيف تموت الديمقراطية» ستيفن ليفيتسكي ودانيال زيبلات؛ «كيف تنتهي الديمقراطية» ديفيد رونشيمان؛ «الشعب مقابل الديمقراطية» ياسشا مونيك؛ «في الاستبداد» تيموثي سنايدر ... إلخ؛ يستعرضها جيمس تروب الباحث الأمريكي بمركز التعاون الدولي (جامعة نيويورك).. وهنا خلاصة بحثه.

بداية يتساءل تروب: على ماذا نحن بالغرب نراهن؟ نشعر أن زخم الأحداث يحملنا نحو شيء مخيف. هل هي عودة للفاشية؟ أم سيبدو مستقبلنا شيء أشبه بحاضر أوروبا الشرقية: ديمقراطية غير ليبرالية؟ أم أن التكنولوجيا تتغلب على حياتنا بسرعة لدرجة أن الديمقراطية ستفسح المجال لشيء لا نملك اسمه الآن؟ ومن نحن؟

هل نحن نعيش فترة تشبه الوضع قبل الحرب العالمية الأولى أم أكثر رعباً، أي ما قبل الحرب العالمية الثانية خاصة سنة 1933 أثناء صعود هتلر، وهو أساس كتاب سنايدر: كلنا نفكر في تلك السنة، مع صعود الشعبويات في أوربا وتصويت شعوبها للأحزاب المتطرفة. أليس هذا هو الدرس الذي تلقاه الألمان مع صعود هتلر؟ العواقب ستكون أسوأ بكثير إذا كنا نؤمن خطأً، كما اعتقد الألمان: «لا يمكن أن يحدث هنا».

لكن هناك من يجادل بأن الغرب الآن في حالة أفضل، فالمؤسسات الأمريكية والأوربية أقوى بكثير من المؤسسات الأوروبية في ثلاثينيات القرن العشرين، ومستويات العنف السياسي أقل بكثير، إنما دول مثل تركيا تبدو أكثر تشابهاً مع ألمانيا بين الحربين كما يلاحظ رونشيمان.

التخوف من عودة الماضي الفاشي يطرحه أيضاً كتاب «كيف تموت الديمقراطية»، والفكرة الأساسية فيه هي التآكل الخفي.. إهمال بطيء للقيم الديمقراطية والمؤسسات التي تدعمها لدرجة أنها قد تمر دون أن يلاحظها أحد بينما يتقدم اليمين المتطرف عبر بوابة الديمقراطية بتسامحها ولينها. الشعبويون يؤمنون بديمقراطية تمنح الأغلبية التصويت على الحقوق والمس بالحريات، مثلما يجري الآن في هنجاريا وبولندا.. ومن هنا تموت الديمقراطية!

ربما الشيء الذي يموت ليس «الديمقراطية» وفقاً لمونك، فالديمقراطية، وهي نظام سياسي مصمم لضمان حكم الأغلبية، تعمل على ما يرام؛ ما يتعرض للتهديد هي القيم التي نضعها في الحسبان عندما نتحدث عن «الديمقراطية الليبرالية». إن الشعب مقابل الديمقراطية هو عنوان مضلل، فموضوع مونك الفعلي هو «الشعب مقابل الليبرالية» أو حتى «الليبرالية مقابل الديمقراطية».

يتتبع مونك صعود الأحزاب الشعوبية عبر أوروبا التي تشترك في الرغبة بالاستيلاء على آليات الأغلبية، وأهمها التصويت، من أجل تعزيز رؤية معادية للحقوق الفردية، ولسيادة القانون، ولاحترام الأقليات. هذه ديمقراطية غير ليبرالية. «ديمقراطية بلا حقوق»، كما يسميها مونك، إنه رد فعل على «حقوق بلا ديمقراطية» أو «ليبرالية غير ديمقراطية».

ويخلص مونك إلى أن الديمقراطية الليبرالية ازدهرت في ظل ثلاثة شروط: وسائل الإعلام الجماهيرية التي «تفلتر» التطرف؛ النمو الاقتصادي الواسع والحراك الاجتماعي؛ التجانس العرقي النسبي. لقد انهارت هذه الأسس الثلاثة، ومن ثم فالديمقراطية غير الليبرالية والليبرالية غير الديمقراطية قد تتواجه بشكل متزايد ضد بعضها. يقول مونك: حان الوقت لإعادة النظر في الشعار الذي أصبحت فيه الديمقراطيات الليبرالية صلبة وموحّدة، ولم تعد تواجه خطر النكوص، بعد تحول بولندا وهنجاريا إلى ديمقراطيات غير ليبرالية أمام أعيننا بشكل سلمي. فعلى الليبراليين أن يأخذوا مبادئ الليبرالية على محمل الجد أكثر، وإيجاد لغة جديدة للتعامل مع مخاوف الأقليات والمهمشين.

ينتشر بالغرب موضوع صعود الديمقراطيات غير الليبرالية في أوربا الشرقية، إنما يرون أن المؤسسات العريقة (المالية والسياسية) للأقليات، والتشريعات، والمرجعية القضائية، والمعاهدات الدولية، يمكن أن تمنع الأغلبية من تحويل إرادتهم إلى تشريع، لكنهم يؤكدون أنه لا يمكن الرهان على ذلك. ويعد مثال الرئيس الفرنسي ماكرون، ونجاحه ضد الشعبويين مثالاً بأن الآليات الديمقراطية يمكن أن تؤدي إلى تغيير اقتصادي واجتماعي حقيقي، لكنه مثال وحيد حتى الآن.

نظرية التحديث القائلة بأن الديمقراطية الليبرالية هي نقطة النهاية للتطور السياسي «نهاية التاريخ» أصبحت عرضة للشك، بل والرفض، كما يرى رونشيمان بأن الديمقراطية قد تكون مثل كل الأشياء التي صنعها البشر، كيانات فانية.. تزدهر ثم تتقدم في العمر وتموت.. مفترضاً أن الديمقراطية الآن هي في مرحلة «الكهولة». يعتقد رونشيمان أن المواطنين العقلاء قد يختارون بديلاً للديمقراطية، مثل سلطات نخبوية غير منتخبة لكنها براغماتية وحكيمة وغير إيديولوجية. ربما سيتم الاستيلاء على الآليات الديمقراطية عبر الإنترنت وتتحكم بنا الآلات وتعاملنا كالرقميات، مع حزمة الحريات الفردية المصاحبة لها.. وسنقول حينها أن الديمقراطية لم تكن مرحلة فقط، بل لحظة عابرة. يرى رونشمان أن قدرة الديمقراطية ضعيفة على التعامل مع مشكلات كارثية مثل تغيّر المناخ، لذا لا يذرف الدموع حول فكرة زوالها المقبل.

رغم كل ما تقدّم، ثمة نسبة كبيرة من المفكرين الغربيين تعتقد بإمكانية الديمقراطية الليبرالية على احتواء كل ذلك سواء تصاعد عدم المساواة الاقتصادية أو الشعبوية المضادة للحقوق والحريات، لكنهم يحذرون من «أن هذه الديمقراطية إذا أدت إلى عدم المساواة ورفض التنوّع وحقوق الأقليات والحريات الفردية الذي يقوض الالتزام بالليبرالية، فإن قيمنا العميقة ستكون متعارضة مع بعضها البعض».