جمال بنون

 الجمعة الماضية أعلن وزير الثقافة والإعلام السعودي الدكتور عواد العواد أسماء أعضاء مجلس إدارة الهيئة العامة للثقافة، والتي ضمت شخصيات من رجال أعمال ومثقفين ومخرجين وفنانين وملحنين، وهذه هي المرة الأولى التي تخرج فيها «الثقافة» في السعودية بثوب جديد، وتلبس عباءة اقتصادية.

على مر العقود الماضية، حضرت «الثقافة» ضيف شرف في كل الفعاليات والمناسبات، وبقيت مهملة، بوصفها منتجا له تأثير كبير في المجتمع، لهذا بقيت الأنشطة الثقافية ومنتجاتها محدودة، سواء بقيمتها أم إسهاماتها، حتى إن أنشطتها كانت محصورة في برامج محددة، فلم تنتج لنا نجوماً في مجالات أخرى، ولم تشبع رغبات المتعطشين إلى البرامج الثقافية، حتى أصبحت تتقاذفها كل جهة في طرفها، على سبيل المثال، بقيت أمانة الرياض سنوات هي الراعي الرسمي لمعظم المسرحيات، التي كانت تعرض في مواسم العيد والإجازات، فكانت تفتقد جودة النصوص والمعنى الحقيقي للمسرح، فضلا عن أنها كانت مجانية لأجل جذب الجمهور، حتى المهرجان الوطني للتراث والثقافة، احتضنته وزارة الحرس الوطني منذ انطلاقته. كانت هناك جهود ومحاولات من جهات حكومية عدة لأجل تنشيط وتفعيل الثقافة، حتى بعد أن انتقلت ولاية الثقافة إلى مظلة وزارة الاعلام بقيت تقليدية ولم تبرز لعشاق الثقافة أي منتجات إضافية جديدة، فالأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون كانت أشبه بمآتم، ليس فيها فعاليات تذكر أو أنشطة تنمي مواهب ثقافية وتهتم بالشباب، حتى خرجت علينا رؤية السعودية 2030 وبرنامج التحول الوطني، لتنقذ قطاع الثقافة وتنتشله من حالة الإغماءة التي كان عليها عقودا، وتحوله إلى قطاع اقتصادي مهم ورافد من روافد الدخل بوجه جديد، وإخراجه من التقليدية التي يعيشها.

لائحة تنظيم الهيئة العامة للثقافة، التي صدرت في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أشارت بوضوح إلى ما يتعلق بموارد الهيئة المالية، إضافة إلى ما يخصص لها من موازنة الدولة، والمقابل المالي الذي تتقاضاه من الخدمات والأعمال التي تقدمها، وعوائد استثمار مواردها، هذا يعني أن القطاع الخاص سيكون له دور كبير للإسهام في تشغيل كثير من أنشطتها، وطرح منتجات جديدة تضيف إلى الفعاليات الثقافية الجانب الاستثماري، وهذا يعني أن المجال الجديد سيخلق فرص عمل جديدة للسعوديين، وكذلك ظهور مشاريع ثقافية مختلفة عما اعتدنا عليه في السابق، وبالتالي ربما تلغى بعض الأجهزة المعنية بالثقافة والفنون أو تدمج، وقد تظهر أنشطة أخرى في مجالات فنية وثقافية.

وضع لائحة تنظيمية لـ«هيئة الثقافة» واختيار مجلس إدارتها يجب أن ينعكس إيجابا على الحركة الثقافية في السعودية، في جوانبه كافة، والاستفادة من تجارب دول حققت نجاحات هائلة وأضافت إلى خزائنها وإلى سوق العمل نتائج جيدة، وحققت سمعة عالمية، فصناعة الثقافة في الصين تسجل نموا بمعدل 16 في المئة في إيراداتها السنوية، التي بلغت 296 بليون دولار، أي بما يعادل أكثر من ثلاثة في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وتسعى وزارة الثقافة في الصين إلى تعزيز صناعة الثقافة، لتصبح مصدرا جديدا للنمو الاقتصادي، كما تتطلع لتكون إسهاماتها في الناتج المحلي خمسة في المئة، وهي تركز على تطوير أسواق الكتب والصحف والمجلات ونشر المرئيات والصوتيات الرقمية وفنون الأداء والمسلسلات التلفزيونية والأفلام والرسوم المتحركة، مع تشجيع المصارف على تمويل المشاريع الثقافية.

عالمياً، يعد القطاع الثقافي مسهما فعالاً في التخفيف من البطالة ووطأة الفقر، وبحسب منظمات وهيئات عالمية، يمكن أن يكون التراث الثقافي والصناعات الثقافية والابداعية والبنية التحتية الثقافية أدوات استراتيجية لتوليد الدخل، ولاسيما في البلدان النامية، وهي أكثر القطاعات توسعا في الاقتصاد العالمي، بمعدل نمو يصل إلى 17 في المئة في الشرق الاوسط، و13 في المئة في آسيا، فقطاع السياحة والثقافة يخلق فرص عمل في جميع أنحاء العالم، تصل إلى نحو 260 مليون وظيفة، تشكل تسعة في المئة من الناتج الإجمالي العالمي، والتي تقدر بنحو 6 ترليونات دولار، ونحو ستة في المئة من صادرات العالم.

تمتلك السعودية رصيدا هائلا ومخزونا ثقافيا كبيرا يجعلها من أحد الرواد المهمين في صناعة الثقافة، لما تمتاز به من أماكن تراثية وتاريخية، وأيضا قدرة كبيرة في الحفاظ عليها وتطويرها، وإضافة منتجات جديدة، وهي ترغب في أن ترتفع حصتها في المواقع المسجلة في «يونيسكو» من 4 إلى 7 مواقع حتى عام 2020، وزيادة عدد سياحها إلى 1.2 مليون سائح، وهذا يعني أننا في حاجة إلى جهد شاق وتضافر الجهود بين القطاعات كافة، الحكومية والأهلية، والشفافية في التعامل مع أي مشاريع تطرح في مجالات ثقافية، كما أننا نملك رأسمال ثقافي غير مستثمر، وكثير من الأنشطة الثقافية غير موثقة، مع غياب التنسيق الوطني لاستثمار الجوانب الثقافية والتراثية وتحويلها إلى رأسمال ينشّط الجانب الاقتصادي، ويسهم في تعزيز الهوية الوطنية والقيم والمبادئ، وفي الحفاظ عليها من خلال تعدد برامجها وتنوع أنشطتها.

أهمس في أذن المسؤولين المهتمين بقطاع صناعة الثقافة، ضرورة أن تبقى «هيئة الثقافة» إدارة مستقلة تتبع مباشرة مجلس التنمية الاقتصادية، وتنفصل لغويا وإداريا من وزارة الثقافة والإعلام، فمسؤولية متابعة الإعلام شاقة، وتحتاج إلى وزارة مستقلة، فما بالك بجهازين مهمين، وبخاصة أن الوزارة لديها أعباء تحوّل مؤسساتها إلى قطاعات منتجة وذات إيرادات منفصلة.

هناك عدد من التجارب أحدثتها التغييرات الوزارية، منها دمج التعليم العالي مع العام، وفصل المياه عن الكهرباء، وغيرها من الاصلاحات التي تمت في عهد الملك سلمان، فمن المهم أن تنظر الجهات العليا إلى قطاع الثقافة على أنه أحد الروافد الجديدة للنمو الاقتصادي في البلاد، ويحتاج إلى متابعة وتفرغ تام.