نوال السعداوى

 كنت أسكن الكوخ الخشبى على شاطىء المحيط الأطلنطى بجزيرة «بيكس أيلاند» التابعة لولاية «مين» عند حدود كندا، فى الصباح أرى أشعة الشمس منعكسة بلون ذهبى فوق الثلوج البيضاء التى تغطى الأرض والماء والشجر، وفوق الصخور ترفرف طيور النورس بأجنحتها البيضاء تلتقط السمك من الماء والعصافير الصغيرة من الهواء، عشت فى هذه الجزيرة، عام 2002 و2003، أحمل لقب أستاذ زائر مميز بجامعة اساثيرن مينب بمدينة بورتلاند. غادرت مصر يناير 1992، بعد تهديدات السلطات الحاكمة، ونشر اسمى بقوائم الاغتيالات لجماعات إرهابية غامضة، قضيت ستة عشر عاما أقوم بالتدريس بجامعات العالم، منها جامعة ديوك فى نورث كارولينا، والجامعة بمدينة «سياتل» على شاطىء المحيط الهادي، وجامعات متعددة فى فلوريدا وإلينوى وأطلانطا ونيويورك ونيو جيرسى وكاليفورنيا، وفى إنجلترا وفرنسا وسويسرا وإسبانيا وغيرها، ثم عدت الى مصر نهاية عام 2009. كنت أقوم بتدريس مادة من ابتكاري، أعطيتها اسم «التمرد والإبداع»، بعض الجامعات المتقدمة تسمح للأساتذة بابتكار المادة التى يدرسونها، وإن كانت مخالفة للقيم والعقائد، مما يساعد على حرية التفكير، تمكن العقل البشرى بعد الثورة العلمية بأوروبا والانتصار على سلطة الكنيسة، من البحث وراء الطبيعة واكتشاف قوانين الكون المادية، لم يعد نقد الدين فسادا أو كفرا يستحق القتل، أو مرضا نفسيا يستحق تسليط الكهرباء على الدماغ، أصبحت حرية البحث منهجا علميا، لم يعد الإيمان يدل على الأخلاق، ولم يعد للملابس أو تغطية الرءوس علاقة بالفضيلة، بل تم الكشف عن أن الفساد والقمع والتسلط، يتخفى تحت التعاويذ والأحجبة والأبخرة والطقوس، وأصبح الجدل والنقاش قمة الفضائل وليس الطاعة والخضوع، تم تشجيع العقل الحر والخيال والابتكار والاختراع. فى أغلب الجامعات تمتعت بحرية فكرية كبيرة، كان النقاش يدور بينى وبين الطلبة والطالبات دون حدود، لا ألقى محاضراتى من فوق المنصة، بل الجدل والحوار فيما يسمى «سمينار» أو ندوة مجموعة، يشارك فيها طلبة وطالبات من مختلف الأديان والثقافات والعقائد والأجناس والجنسيات، يتناقشون بالأدلة العقلية، حيث يترابط العلم بالفن، والتفكير بالشعور.

فى نهاية «السيمستر» أو نصف السنة، نصبح أسرة واحدة، لكل فرد فرصة ليقود المجموعة، فى نهاية العام تذوب الخلافات الموروثة، يجمعنا الانسجام الإنساني، كفرقة موسيقية، متعددة الآلات والأنغام، كمياه النهر، تصب روافده فى بحر واحد، نصبح فصيلة جديدة من البشر، أرقى خلقا أرجح عقلا أكثر صدقا، نحترم الخيال والإبداع والنقد العلمى والفني، الذى يدفع العقل إلى التقدم والتطور اللانهائى .

بعض الجامعات لا تحظى بالحرية الأكاديمية، ينشر الإبداع فيروس التمرد ضد التسلط بالجامعة يكشف الإبداع تناقضات النظام القائم على العنصرية والحروب والنهب والتجسس والخداع والديمقراطية المزيفة، كان ذلك يؤدى إلى غضب المسئولين فى بعض الجامعات المتزمتة، مثل جامعة «ميزوري» وجامعة «سينسيناتي» وغيرهما، يخرقون القانون بالقوة، يفسخون العقد معى أو يحجبون حقوقى الأدبية أو المادية لمجرد مقال أو محاضرة نقدت فيها العدوان الأمريكى الإسرائيلى على شعب فلسطين أو العراق.

منحتنى جامعة «ساثيرن مين» الحرية لتدريس ما أشاء، وأصبح الطلبة والطالبات أبنائى وبناتي، وحياتى فوق جزيرة «بيكس أيلاندب» كانت مدهشة، رغم الصقيع والثلوج، شعرت بالدفء، كانت «كاترين» نصف نرويجية نصف فرنسية، تسكن بجواري، تحوط كوخها حديقة كبيرة تصل لحافة الشاطىء، تزرع فيها الزهور والخضراوات، تجاوزت الثمانين عاما من عمرها، تمشى كل يوم حول الجزيرة على قدميها أو فوق دراجتها، تجمع أطفال الجزيرة أيام الأحد، تعلمهم العزف على الجيتار والغناء والرقص، أصبح الأطفال يحبون الذهاب اليها أكثر من الذهاب للكنيسة مع أمهاتهم، كانت تدرس الموسيقى بمدرسة ابتدائية فرنسية، بعد الزواج انشغلت بأطفالها الثلاثة، تخرجوا فى الجامعات وتزوجوا وانتقلوا مع أسرهم إلى بلاد العالم، زوجها الأمريكى رحل فى رحلة بحرية ولم يعد، لا يمكن أن تسميها أرملة وحيدة أو امرأة عجوز، كنت أسمعها تعزف البيانو أو الجيتار، تغنى فى الصباح وترقص، تشرق ابتسامتها كشعاع الشمس، تبدد الغربة، تحول المنفى الى وطن، فى أول لقاء أدهشنى البريق فى عينيها، يرفعها فوق التصنيفات البشرية ومقاييس العمر، تعلو فوق صفات الأنوثة والرجولة، كانت نوعا راقيا متطورا من البشر، لا ينتجه إلا الإبداع والاستقلال.