عبدالله السعدون

حين تنهض المملكة على أسس قوية ومؤسسات تضمن استمرارها ستصبح مثالاً يحتذى لبقية الدول العربية، وسيصبح قادة المملكة هم المثال الذي يجب أن يكون عليه قادة الدول العربية..

تلوح في الأفق ملامح جديدة لشرق أوسط مختلف عمّا سبق، شرق يسوده السلام والتنمية، لقد ابتليت المنطقة بعوائق كثيرة أقعدتها عن اللحاق بركب الحضارة رغم الغنى المادي وميزة قربها من مركز الحضارة الحديثة أوربا، وقد شهدت المنطقة محاولات كثيرة للنهوض والتقدم منذ بداية القرن التاسع عشر كان أولها على يد مؤسس مصر الحديثة محمد علي باشا، وكان يمكن أن يجعل من مصر نموذجاً يحتذى لبقية الدول العربية لولا مظالمه وجرائمه وكثرة مغامراته وإخفاقاته، ومن أهم ما شهده العالم العربي حديثاً قيام الثورة المصرية في العام 1952، وقيام زعيمها عبدالناصر بالدعوة إلى الوحدة العربية ومحاربة الاستعمار وتحرير فلسطين. وقد أسر بخطبه الشعب العربي من المحيط إلى الخليج، لكن من جاء إلى الحكم على ظهر دبابة سيكون في خوف دائم من أن يزاح بنفس الوسيلة، ولذا فقد جعل الأولوية للقبضة الأمنية فصودرت الحريات وأمم الإعلام وسيست الجامعات، وصار من السهولة قلب الحقائق وتكميم الأفواه فانتشر النفاق والكذب والفساد، وخاف المخلصون على أرواحهم فامتنعوا عن قول الحقيقة أو حتى التفاعل مع الحياة العامة، وانشغلت الحكومة بتصدير الثورة فدبرت الإنقلابات في أكثر من بلد عربي بدعوى محاربة الاستعمار وتحقيق الوحدة العربية، واستمرت الآلة الإعلامية في تضليل الشعب إلى أن انكشفت الحقيقة في هزيمة حرب 67 ليبدأ انحسار المد القومي، ويبدأ بعده بروز الإسلام السياسي، وتزعم الإخوان المسلمين المشهد، ونادوا بأن الحل والبديل هو إحياء الخلافة الإسلامية، وساروا على نفس النهج القومي إلا أنهم فضلوا الطريق الأطول للتغيير، وهو أسلمة الشباب وتجنيدهم عن طريق السيطرة على التعليم وتحريضهم على الانخراط في الجهاد لتصبح أفغانستان وجهتهم وميدانهم المفضل للتدريب، ولكن بعض القادة من جيل الشباب تمردوا على قادتهم ومنظريهم فأجهضوا الثورة قبل أوانها حين بدؤوا بالتفجيرات داخل العواصم العربية، ونقلوا بعضاً من أنشطتهم إلى أوربا وأمريكا وكان آخرها ما حصل في 11 سبتمبر العام 2001 مما جعل أميركا تفتح جبهات عدة لمحاربتهم.

اليوم أصبحت التنظيمات الإسلاموية في مرحلة انحسار وكمون نتيجة الهزائم التي منيت بها، وخاصة في مصر والمملكة، وهو لا يعني انتهاءها، ولكن انتظار الفرصة المواتية لتجديد نشاطها ورص صفوفها مرة ثانية.

لقد خلفت هذه التخبطات القومية والإسلاموية إعاقة ثقافية مزمنة شلت كل حركات التقدم والسلام، وجعلت الأوطان العربية تعيش في أوهام الماضي، وفي مواجهة غير متكافئة مع قوى العالم الفاعلة، وأصبحت الإعاقة الثقافية أخطر الإعاقات وأصعبها، ذلك أن الدول دون أن تدري تصبح بكل مؤسساتها من أكثر الحامين لها والمنافحين عنها والمحافظين عليها بل والناشرين لها، وتزداد الثقافة تغولاً حين تصبح ضمن مناهج التعليم فتؤصل لكل ما يدعوا إلى الجمود والتخلف والعيش على أوهام الماضي وبطولاته، وتحييد العقل والاعتماد على الآخر في كل ما يحتاجه الناس من غذاء ودواء وملبس، بل ويتعداه إلى أن الاحتياجات اليومية والضرورية تصبح بحاجة إلى فتوى خشية الوقوع في المحذور أو المحرم.

الخروج من نفق الإعاقة الثقافية واللحاق بركب الدول المتقدمة يحتاج إلى إرادة سياسية واعية وشجاعة وحرص ومتابعة وتغييرات جوهرية في البنية الثقافية وهو ما تشهده المملكة في عهد الملك سلمان، والأمير محمد بن سلمان ومن خلال ما صرح به في أكثر من مناسبة عازماً على إجراء تغييرات جوهرية في الثقافة والعودة بالدين إلى منابعه الأصلية كدين محبة وتسامح واعتدال وتعايش مما سيهيّئ المزيد من الانتشار والتأثير لهذا الدين على مستوى العالم.

والخطوة الثانية المهمة لبناء الوطن هي النهوض بالاقتصاد على أسس علمية وبناء شراكات ضرورية مع الدول المتقدمة للبدء من حيث انتهى الآخرون، وهذا يتطلب الاستمرار في إصلاح أجهزة الدولة وتقوية السلطات الثلاث، التنفيذية القضائية والتشريعية، وإعطاء المزيد من الحرية للنقد البناء لضمان استمرارية التقدم ومكافحة الفساد وحسن اختيار القادة، وهو ما تقوم به المملكة ويشرف على هذا التحول سمو ولي العهد شخصياً.

حين تنهض المملكة على أسس قوية ومؤسسات تضمن استمرارها ستصبح مثالاً يحتذى لبقية الدول العربية، وسيصبح قادة المملكة هم المثال الذي يجب أن يكون عليه قادة الدول العربية، فالشعوب العربية ملت من الخطب والوعود والقومية والإسلاموية وتريد أن ترى الأفعال على أرض الواقع، وتريد أن تضمن لأبنائها وأحفادها حياة حرة كريمة أساسها العدل والسلام ومكافحة الفقر والجهل والمرض.