طيب تيزيني

أتينا في المقالة السابقة على الواقع العربي الراهن في إجماله، وذلك من مستويين اثنين له؛ التاريخي والمجتمعي. نعم كان ذلك إجمالياً وفي صيغتيه التاريخية والراهنة. أما الآن فنتعرض للمسألة إياها، لكن مشخصة في عدة حقول تشغل حيزاً ملحوظاً من الراهن، ونعني أولاً مسألة السياسة، وثانياً مسألة الثقافة، وثالثاً مسألة العدالة، أما رابعاً فمسألة التربية، بينما تتصل المسألة الخامسة بالمدنية والتنويرية.

نعلم أن البحث في هذه المسائل الخمس مفتوح على مجال واسع من الإشكالات والتعقيدات، لاسيما في علاقة هذه المسائل بالسياسة. وقد اخترنا هذه الأخيرة لدورها في المجتمع البشري المنتظم عبر دول، إذ تمثل «الدولة» المرجعية السياسية الأولى في المجتمع الحديث؛ فهي تضبط ما يعتبر الحاضنة الأعلى للمجتمع السياسي، بعد أن تؤسس لما ينضوي تحتها من تفصيلات تتعلق بالمجتمع في عمومه وفي أجزائه. وثمة مبدأ المساواة الذي يمثل أهمية خاصة بالنسبة للمجتمع السياسي الحديث، دونما تمييز بين أعضائه.

وإلى ذلك، تؤكد الدولة الحديثة على المساواة القانونية، وفي كل الحقول المجتمعية الأخرى، كالعمل والتعليم والخدمة العسكرية.. وبتعبير آخر، فالطبقية والطائفية في الانتماءات التاريخية يمكن أن تدمر المجتمع، إن وجدت أرضاً خصبة لها.

على هذا الأساس، يبرز الدستور الوطني ليكون مرجعية الجميع، دون التعامل على أساس «الست والجارة»، مهما كان الأمر، فالوطن يسع الجميع، وينبغي التأكيد على أن مرجعية هؤلاء جميعاً تتمثل في الانتماء إلى الوطن، بحيث لا يحتمل ذلك أنماطاً من الاستفراد في المواقف والممارسات من أية جهة، بعيداً عن منظومة القيم الحداثية والمستنيرة في دولة تحمل هويتها المدنية ليس إلا.

وحيث يكون ذلك، فإن منظومة من القيم لا يمكن تجاوزها مثل جعل العلاقة بين الديمقراطية والاقتصاد عميقة وفاعلة، بمعنى التأسيس لقيم سياسية فاعلة اقتصادياً باتجاه تأسيس سوق فاعل ومنتج، بمعنى ألا يؤكد على الوجه النظري الفاعل بين الديمقراطية والسوق، بعيداً عن اكتشاف الحوافز المادية الاقتصادية كفاعل في تطوير الديمقراطية السياسية والإنتاج الاقتصادي السوقي؛ ومن ثم تأسيس منظومات فكرية سياسية للتحفيز على الإنتاج الاقتصادي الفاعل. وفي هذا الحقل يصح التذكير ببعض القيم المحفزة على العمل والإنتاج داخل المنظومات الاقتصادية والاجتماعية والقيمية.

وهنا، يصح التركيز على المقولة الإنسانية الفذة: الإنسان أثمن رأسمال في العالم.. ما يفتح الباب على مصراعيه أمام العلاقة بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج. فبمقتضى ذلك، لا يصح القول بأن أدوات الإنتاج الاقتصادية هي التي يُعوَّل عليها بالدرجة الأولى، وإنما هذا الدور يبرز مركزياً بفعل القوى الاجتماعية، أي قوى العمل (البشر)، ما يحيلنا إلى ما المقولة آنفة الذكر: «الإنسان أثمن رأسمال في العالم» دونما التقليل من أهمية قوى الإنتاج.

وحين يفرض الإنسان نفسه سيداً للموقف، لا نستطيع النظر إلى الأمور من حولها وكأنها خاضعة بيسر لذلك الموقف. إن موقفاً كهذا يتأسس على مبدأ الإرادة الإنسانية الحرة، إنما يتأسس على أن الإنسان الفاعل يمتلك من الإرادة ما يجعل ذلك الموقف محدود التأثير. إنها علاقة مفتوحة بين الطرفين، أي بين الواقع والفاعلية الإنسانية.

ونشير هنا إلى أن ممارسة المرأة اجتماعياً أو سياسياً لا تتم دون آلية تسمح لها أو تمنعها من المشاركة في تلك الممارسة. فالمرأة في حضورها المجتمعي الثقافي المتسلح بالوعي النقدي، يتيح لها الفرصة كي تملك الوعي بوضعها الاجتماعي إيجاباً وسلباً.