سالم سالمين النعيمي

أثبت التاريخ أن السلطة التي تملك قوة عسكرية واقتصادية وصناعية ومعرفية كبرى تميل إلى الفساد، وتتحول مع مرور الوقت لسلطة مطلقة تغلف كل ما تقوله بكلمات رنانة مثل الديمقراطية والمشاركة الشعبية وتصور للعالم أجمع أن مصيرهم على المحك، وهناك خطر وعدو دائم يتربص بهم. ولابد لهذه السلطة من إيجاد فزاعات متنوعة تكون حديث الشارع في كل بقعة من الكرة الأرضية، وتخترع مسميات كبيرة لضمان استمرار استيلاء الدول العظمى على موارد العالم، وجعله سوقاً دائماً لمنتجاته، وأخذ المواد الخام من المناطق المهيمن عليها بثمن بخس وإعادة تصديرها بالعملة الصعبة، بأسعار يصعُب على سكان الدول المصدرة للمواد الخام شراءها بعد أن تصبح منتجات ذات قيمة اقتصادية عالية، وبالتالي تدخل تلك البضائع لجميع الأسواق في العالم كمواد تسر الناظرين.

ولضمان الديمومة، جاءت كذبة النظام العالمي الجديد، حيث تتجمع الدول المختلفة في قضية مشتركة، لتحقيق الطموحات العالمية للبشرية والسلام والأمن، والحرية، وحكم القانون وتجعل الأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الأممية حجر الزاوية في خطط بناء نظام عالمي جديد، ولذلك فرضت أزمات وحروب والزج بالأمم المتحدة كشرطي عالمي ومجلس الأمن كفناء خلفي لاعتماد القرارات التي يتم المصادقة عليها مسبقاً.

فمفهوم النظام العالمي الجديد هو مفهوم استبدادي، يُقسم العالم لدول مسيطرة ومتحكمة، وأخرى مُسيطر عليها، أو تقف على الهامش، وتلعب أدواراً ثانوية يسمح لها بلعبها وعدم الخروج عن النص من خلالها، وقد ظهرت نبوءة النظام العالمي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية من رحم تقاليد الديانة المسيحية، وتشكلت منظمة حلف شمال الأطلسي «الناتو» كحماية ضد تقدم قوى وارسو الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفييتي. وعندما أصبح ميخائيل جورباتشوف زعيماً للاتحاد السوفييتي، سمح بسقوط جدار برلين، وفي النهاية سقط الستار الحديدي، ليعلن قادة العالم أن الحرب الباردة انتهت، وأعلنوا ميلاد نظام عالمي جديد.

ومن جهة أخرى عندما غزا صدام حسين الكويت عام 1990، وضع الرئيس جورج بوش ائتلافاً من الأمم المتحدة من 29 دولة لمحاربة صدام وفي هذا الوقت، أدلى بوش الأب بتصريحه الشهير بأن لدينا بالفعل فرصة في ولادة «النظام العالمي الجديد»، وبدأنا نسمع مصطلحات جديدة مثل المجتمع العالمي والمجتمع الدولي، وكان لا بد من حدوث سيناريو الأزمة المالية العالمية في سنة 2008، ومجدداً الحديث عن الحاجة إلى نظام عالمي جديد بهياكل اقتصادية عالمية، ولذلك الأزمات والحروب وتفشي الأوبئة هي بمثابة أكسجين لفرض أجندة التحول نحو حكومة عالمية.

فمصطلحات مثل «جوارنا العالمي» و»ضريبة عالمية» و»قوة شرطة عالمية» والتعديلات اللازمة في القانون الدولي، فإن كل ذلك يشير إلى قوانين الحكومة الدولية، ولفرض قوانين النظام الحكومي العالمي، وبتبع ذلك البنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ومنظمة الصحة العالمية، وكل هذه المؤسسات العالمية القوية، هي مجرد دمية لخدمة هدف أكبر وأشمل، يقترح القضاء على الحروب والصراع السياسي، وشن حملة واسعة للتخلص من الفقر والمرض والجوع، وكل ذلك من أجل تلبية احتياجات وآمال البشرية التي تحلم بالسلام العالمي، وتكريس فكرة عدم الحاجة لحكومات عالمية متنوعة، ولذلك ما يجري في الوطن العربي ليس مصادفة، كما يعتقد البعض أن النظام العالمي الجديد سيشدد على التسامح من خلال تعزيز وقبول الثقافات الأخرى وقيمها وأيديولوجياتها، ولكن الهدف النهائي هو الشعور بالوحدة مع جميع الناس الذين يتحدثون نفس اللغة، وتشمل الأهداف الأخرى استخدام عملة واحدة على مستوى العالم، بالإضافة إلى وحدانية السياسة والدين والقيم الأخلاقية، ونضع خطاً أحمر تحت وحدانية الدين، وكل ذلك مستمد من تعاليم الإنجيل، وكأن التعاليم الدينية من الممكن أن تجلب «اليوتوبيا» و»المثالية» التطبيقية إلى الوجود.

فعندما تكون أعيننا مفتوحة على الحقيقة، فإن هذه الأخيرة وحدها ستحررنا من العبودية الروحية والفكرية والسياسية، ويجب رفض الأكاذيب التي تسبب الحروب والفوضى والضائقة الاجتماعية، وأي مجموعة بشرية في العالم أجمع تدعي أنها حرة في ممارسة معتقداتها السياسية بعيداً عن القوالب الجاهزة، ونظام يكافئ الكذاب باسم العدالة السياسية، وهي عدالة واهمة. ونحن كبشر في مرحلة حرجة تسمى مرحلة «ما بعد الحقيقة». وأصبح لا شيء أكثر إهانة من الحقيقة، وهي عملية نفسية من خلال الدعاية الرمادية، التي تهدف إلى جعلك تنكر تفكيرك، وتكون جزءاً من تفكير المجموعة.