محمد المزيني 

ليس هناك شعب يعرف تفاصيل قضيته تمام المعرفة كالشعب اللبناني، فهو مرتبط بتاريخ مليء بالنزاعات الطائفية ولا يمكن أن يرى مستقبله بمعزل عن هذه التقسيمات، فقدره التاريخي والوجودي ألزمه الانضواء بشكل أو بآخر تحت عباءة الحزب أو الطائفة التي ينتمي إليها، وعلى رغم الحرية الكاملة التي يتميز بها اللبنانيون عن بقية دول المنطقة، إلا أنهم يجدون أنفسهم مجبرين على حماية وجودهم ومصالحهم مع من يمثلهم، ولن تكون بحال من الأحوال أهم وأقوى من الطائفة، فمن خلالها يستطيع التعايش مع الطوائف الأخرى، مع ذاك الشبح التاريخي المشؤوم الذي يقربهم من حافة الخوف كلما استعيدت ذاكرة الحرب الأهلية التي اكتوى اللبنانيون بنارها وألحقت في ذاكرتهم وشوما لا يمكن أن يمحوها الزمن، أو أن الزمن عاجز عن محوها لأن القضية ببساطة أن الشعب اللبناني كلما راهن على وطن حر منفلت من ربقة الحزب أو الطائفة يجدها مدفوعا إليها دفعا بسيطرة بعض الأحزاب المتنفذة على مقابض الحياة، فالذاكرة لا تزال تستعيد أسوأ 15 سنة مرت على لبنان، امتدت من العام 1975 إلى 1990 قلبتها «رأسا على عقب»، فمن باريس الشرق الأوسط الصورة المستنسخة من باريس الأوروبية إلى حرب أهلية مجنونة لعبت فيها الأطماع حتى أحالتها إلى

خراب ودمار.

هذه الذاكرة وحدها ظلت قائمة في أذهان اللبنانيين حتى اليوم، لأن مخلفاتها وآثارها ونتائجها لا تزال قائمة على الأرض، هنا لن نريد استرجاع تلك الانزياحات التاريخية الديموغرافية المتأثرة مباشرة بالوجود العثماني، ثم الانتداب الفرنسي الذي جاء حماية للمسيحيين إثر الحرب الاهلية الدامية التي شهدها جبل لبنان عام 1860، والتي نقلت النسيج الطائفي من حالة استقرار ومشاركة إلى توتر وصراع حرك أطماع البعض وإقحامه تحت ألوية طائفية، وباتت العلاقة اللبنانية - اللبنانية متوترة محفوفة بالشكوك والتطرف.


اليوم، وعلى رغم التباس الحالة اللبنانية بالحزب والطائفة فهم لا يريدون تكرار المآسي السابقة، من 1958 وحتى نهاية الحرب الأهلية، التي لم تكن لتتم لولا المبادرة السعودية التي وقف من أجلها العالم إجلالا وإكبارا، وكان من حق السعودية على اللبنانيين أن يضعوا معاهدة الطائف 1989 تاجاً على رؤوسهم، وألا ينسوا أو يتناسوا هذا الفضل الذي حقن دماءهم وأعاد إليهم الوجه الحضاري الجميل على أفضل مما كانت عليه، ليس على سبيل المن، بل لكي يحافظوا على مكتساباتهم المثلى المجسدة على أرض الواقع، وألا يسمح لأي قوة سواء داخلية كانت أم خارجية بانتزاعها منهم أو تدميرها بمعاول الهدم الحزبي والطائفي.

السعودية لم تكن لتدخل معمعة الصراع اللبناني كي تضع يدها على مفاصل الدولة اللبنانية، فدخول رفيق الحريري بقوة نفوذ سياسي واقتصادي من أجل إنهاء الحرب الأهلية وإعادة إعمار لبنان بدعم سعودي كامل، كان النافذة الوحيدة لإعادة الرئة اللبنانية المعطلة للتنفس، ربما كان على مؤتمر الطائف أن يكون حازما في ما يتعلق بحزب الله بعد انحسار الوجود الإسرائيلي عن الجنوب اللبناني كي يندمج كليا مع فيالق الجيش اللبناني، تمكن حزب الله كجيش طائفي لم يترك الفرصة للبنانيين من التقاط أنفاسهم ومعالجة هذا التوتر الطائفي بما يليق بدولة عصرية بامتياز، وكان اغتيال الحريري إيذانا بانقلاب موازين السياسة اللبنانية بعد تورط لبنان بحرب باعتداء إسرائيلي مفتعل، لتنشط قائمة طويلة من الاحزاب المارونية والسنية والشيعية والعلوية والدرزية والعسكرية والقومية والتوفيقية مخافة استعلاء حزب الله على كل الطوائف اللبنانية بقوة السلاح، هذه المخاوف أذكت الذاكرة التاريخية وغذّتها تباعا في عقول الجيل الجديد، صحيح أن اللبنانيين غير مستعدين اليوم لتبني قضايا خارجية، أو أن تكون لبنان مسرحا لمخططات اجنبية، إذ علمتهم الحرب ألا يرهنوا أنفسهم لقوى جذب خارجي من أي نوع، فلا تزال ذاكرة المؤامرات التي كانت تحاك في لبنان والأوكار التي يؤمّها متشردو العالم من الثوريين والعملاء المطلوبين وغير المطلوبين انتهت إلى غير رجعة، ولم يعد هناك «مقهى» سانت جورج الذي كانت تعقد فيه الصفقات وتحاك فيه المؤامرات.

اليوم، كل شيء يطفو فوق السطح ويفهم اللبنانيون جيدا علاقة كل الأحزاب بلبنان، وعلى رأسها حزب الله الذي تنمر على اللبنانيين وأقحمهم في حروب مصطنعة بعمالة إيرانية واضحة وجلية التي ورطتهم ثورات الخريف العربي من أجل ضمان بقاء نصر الله متوجا فوق عرش الحزب يصفق له الذين استسلمت عقولهم للدعاية الطائفية، وأوهموا بأن بقاء حزب الله ضمانة أكيدة لتسيد الشيعة على كل الطوائف اللبنانية، هذا المكتسب الذي سعى من أجله موسى الصدر يتحقق اليوم على يد نصرالله الذي أرغم كل الطوائف اللبنانية على الانصياع لإرادته بتحويل المسار السياسي اللبناني في سياق مضطرب عطل الحياة النيابية ودمر الاقتصاد اللبناني. اليوم، ومع كل هذه المتناقضات غير المقبولة، يأتي دور المملكة البنّاء ليعيد ذاكرة «مؤتمر الطائف» من جديد عبر المسارات السياسية النشطة المبذولة مع كل اللبنانيين المتطلعين للخلاص من ويلات الطائفية، خصوصا بعدما تأكدت السعودية تغلغل الوجود الإيراني في العمق اللبناني، في محاولة بائسة لمحاصرتها من جبهتين الشمالية والجنوبية، وهذا ما لن تسمح به السعودية، وتورط حزب الله بدعم الحوثيين مباشرة.

لم يعد هناك اليوم مجال للفرجة أو الاسترخاء، لذلك طفقت السياسة السعودية الواعية جدا على ما يحدث داخل الدهاليز السياسية اللبنانية لإعادة جدولة اهتماماتها بلبنان بما يليق بالمرحلة الحرجة القادمة للحيلولة دون تنفيذ أجندة إيرانية توسعية للتحكم بمفاصل لبنان السياسية والعسكرية والاقتصادية، والتوسع في المنطقة، لذلك شهدت الديبلوماسية السعودية في لبنان في الآونة الأخيرة حركة دائبة ونشطة يقوم بها والوزير المفوض وليد البخاري والمستشار في الديوان الملكي نزار العلولا أربكت نصر الله وحزبه، هذه الديبلوماسية السعودية جاءت متسلحة بالعقل السياسي الراجح القائم على الحجج المنطقية والبراهين والمقدِّر لمصالح لبنان العليا، بحيث وضع أساسا للحوار على الطاولة السعودية - اللبنانية بكل أطيافها السياسية بمن فيهم الشيعة العقلاء الذين وصفهم نصرالله بحزب السفارات، نصر الله يدرك أنه هدف المرحلة القادمة وسيخضع لا محالة لشروطها والتي من أهمها تأمين لبنان داخليا، وبتر أذرع إيران الخبيثة، وتحييد حزب الله (حزب العمالة) لوضعه في إطاره الصحيح مثله مثل أي حزب آخر ولاؤه للبنان فقط.