علي بدوان 

انقسم اليسار الفلسطيني على نفسه، مع انعقاد الدورة الجديدة للمجلس الوطني الفلسطيني (البرلمان الموحّد) في رام الله. فعدد من فصائل اليسار شارك بأعمال الدورة، فيما قاطع الفصيل اليساري الأبرز ونعني به الجبهة الشعبية كامل أعمال دورة المجلس الوطني.


انقسام فصائل اليسار بشأن المشاركة في أعمال دورة المجلس الوطني الفلسطيني الأخيرة، يُلَخِصُ الأزمات التي ما زالت تعصف بحال اليسار الفلسطيني منذ تسعينات القرن الماضي، وتراجع دوره وحضوره، حتى بات الأمر من أبرز السمات العامة التي باتت تَطبَع الحياة السياسية الفلسطينية وتفاعلاتها اليومية الحية منذ أكثر من عقدين من الزمن، وقد أمسى من المسلم به أن اليسار الفلسطيني يعيش اليوم على هامش الخارطة السياسية الفلسطينية، وقد تحوّلت غالبية فصائله إلى قوى متواضعة الحضور تحاول إيجاد موطئ قدمٍ لها في ظل حالة الاستقطاب الثنائي في الساحة الفلسطينية، مع الاستثناء النسبي لحالة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي بقيت آخر معاقل اليسار الفلسطيني.

إن تراجع وانكماش حضور فصائل وقوى اليسار الفلسطيني وفعاليتها، لم يأتيا هكذا من فراغ، ولم يكونا صاعقة في سماء صافية، بل جاء تراجع اليسار بعد سلسلة من الانتكاسات التي حلت به سياسياً وتنظيمياً، خصوصاً مع تمزقه لعدد كبير من الفصائل التي شكّلت عبئاً على الحال الفلسطينية في شكل عام، كما شكّلت بتمزقها وتعدد فصائلها، حالة استخدامية في إطار منظمة التحرير (وكوتات منظمة التحرير). وما ساهم بتراجع اليسار الفلسطيني أيضاً تفكك منظومة حلف وارسو والاتحاد السوفياتي على وجه الخصوص، ففقدت الكثير من بريقها الايدولوجي، الذي ترافق مع تراجع أداءها للفعل الفدائي في المقاومة المسلحة، مما ساعد على تآكل حضورها ورصيدها.

وفي محاولات تشخيص أزمات اليسار الفلسطيني، نجد الأمور في صلبها بنيوية شاملة، تاريخية وراهنة، أصابت كل المستويات، الفكرية، والتنظيمية، والسياسية، بدءاً من أزمة النظرية والمنهج، إلى أزمة الممارسة والتطبيق التي حملت في داخلها أشكالاً من تعدد الرؤى وتباين الإجتهادات، وغياب الوعي بطبيعة التطور التاريخي الاقتصادي الاجتماعي في المجتمع الفلسطيني والعربي المحيط به، علاوة على عجزه عن الانتشار المؤثر في أوسع أوساط الناس طوال الحقبة الماضية، وبالتالي طغيان الرؤية القاصرة المشوشة التي دفعت بدورها أحزاب اليسار الفلسطيني إلى مزيد من العزلة والاغتراب عن القطاعات الواسعة من الناس، فأمست أزمات اليسار الفلسطيني البنيوية الداخلية وسياساته الخارجية قديمه تتكرر ولا تتطور.

إنَّ أزمة اليسار استولدت نفسها من رحم الأزمات الذاتية الداخلية أولاً، ومن ثم من رحم الأزمات الموضوعية ثانياً، ففرزت تجربة اليسار الحزبي الفلسطيني سمات متناقضة مع الشعارات التي رفعتها، فلم تستطع استكمال مشروعها في الواقع الاجتماعي السياسي، وظلت تحمل ظواهر نقيضة للشعارات المعلنة، كالاستبداد الداخلي وغياب الديمقراطية الحقيقية وسيطرة الفرد أو مجموعة من الأفراد، وشخصنة الحياة الداخلية، داخل كل فصيل. وبسبب من هذا السلوك، جرت عملياً إعادة إنتاج التقاليد والانتماءات الفردية البطريركية، وحتى القبلية والطائفية والعشائرية حتى تحول الزعيم اليساري لزعيم قبلي بدلاً من أن يكون زعيماً لإطار وطني جامع. وهذه البنية الحزبية المتلحفة بالشعارات اليسارية أعيد إنتاجها عملياً بمظاهر حديثة، جعلت من مفعول ودور الأحزاب اليسارية محدوداً وهامشياً ومشكوكاً فيه.

وعليه فإن قوى القطب الثالث اليسارية والقومية في الساحة الفلسطينية، باتت منذ زمن ليس بالقصير، قوى مشتتة، ممزقة، متنافسة سلبياً بشكل غير مبدئي، ودون اتفاق على الحد الأدنى بين مختلف أطرافها ومكوناتها. فهي قوى مازالت تعيش حالة فوضى الماضي من العمل السياسي الفلسطيني وفي زمن الحرب الباردة، دون أن تدرك بأن واقعاً جديداً قد تشكّل على الأرض خلال السنوات العشرين ونيف التي انقضت من التاريخ الوطني الفلسطيني المعاصر، ومن دون أن تُدرك بأن عليها أن تغادر منطق وأساليب بالية استهلكتها تاريخياً، وأن عليها أن تغير وأن «تصلح الذات في أحسن الأحوال» من أدواتها ومن برامجها وفعلها على الأرض، ومن تطوير لحياتها الداخلية ورفد هيئاتها بالدماء الشاب، والتخلص من ارث «القاعدة السوفيتية» التي كانت فيها عضوية المكتب السياسي والأمانة العامة من «المهد إلى اللحد»، والتقاعد المتأخر في أحسن الأحوال، حتى لو أصيب عضو المكتب السياسي بـ «الزهايمر وخريف العمر». فغالبية قوى القطب اليساري الفلسطيني مازالت محكومة بمنطق الحقبة السوفياتية التي تحتفظ بـ «العتاولة» وحدهم.

وزادت من سلوكها الكابح لمنطق التطور وإفساح المجال لصعود القيادات الميدانية الشابة، استفحال إمساكها الأعمى بما تسميه بـ «المركزية الديموقراطية» التي تتيح المجال لولادة (قراقوش أو فرعون التنظيم والحزب) وهو الحال القائم عند غالبية الفصائل الفلسطينية اليسارية المشبعة بروح (الستالينية)، التي لم توفر استخدام الأدوات وحتى الأفعال «السيئة والشنيعة» في صراعاتها الداخلية التي استنزفت كوادرها وأعضاءها.

وفي هذا السياق، إن اليسار الفلسطيني، وبالتشوهات التي شابت سياساته وبرامجه مع انقساماته المتتالية، يتحمل مسؤولية هامة في ولادة مستنقع المظاهر السلبية من «انحطاط» الحال الفلسطينية، بما في ذلك الاستخدام المزدوج للخطاب السياسي العملي وليس اللفظي في العلاقة في الساحة الفلسطينية، وهو ما وقع عملياً مع أعمال الدورة الجديدة للمجلس الوطني الفلسطيني في رام الله.