محمد فايز فرحات

 إن قراءة دقيقة لحجم الإنجازات التي حققتها القمة الكورية- الكورية التي عقدت أخيراً، يقتضي وضعها في سياق التطور التاريخي للصراع في شبه الجزيرة الكورية، وفي سياق تطور أزمة البرنامج النوي الكوري.

لقد مثّلت تلك القمة تتويجاً لسلسلة مِن التطورات الإيجابية المتسارعة التي شهدتها الأزمة الكورية منذ بداية عام 2018، على نحو يضفي نوعاً من الثقة حول حالة الانفتاح الجارية في علاقات بيونغيانغ- سيول، وعلاقات بيونغيانغ- واشنطن التي تنتظر هي الأخرى تحولات مهمة. فقد تضمنت القمة عدداً من المعاني المهمة. الأول، أنها القمة الأولى التي تُعقد بين البلدين داخل القسم الجنوبي من خط التقسيم. ففي القمتين السابقتين ذهبت كوريا الجنوبية إلى جارتها الشمالية، ومن ثم، أن يذهب الزعيم الشمالي هذه المرة إلى جارته الجنوبية، وفي ظل توازنات قوى مختلفة بالمقارنة باللحظة التي عقدت فيها القمتان السابقتان، فإن ذلك يحمل دلالات مهمة حول رغبة بيونغيانغ في تسوية مشــكلاتــها الإقلـــيمـــية والدولية. المعنى الثاني، الذي لا يمكن إغفاله، أن القمة مثّلت مناسبة مهمة لاستماع العالم مباشرة إلى ذلك الزعيم الكوري الشمالي الشاب، كيم جونغ أون، الذي أثارت الكثير من التقارير الإعلامية تساؤلات حول قدراته الذهنية والنفسية، وصلت إلى حد وصفه بـ «الجنون»، وعدم القدرة على توقع سلوكياته المستقبلية، حتى على المدى القصير. وعلى العكس، أظهر كيم مهارة ملحوظة في التعامل السياسي والديبلوماسي مع نظيره الجنوبي. ونجح في تقديم نفسه وبلاده في صورة «الشخص» و «الدولة» الطبيعيين. بل عكست تصريحات كيم قدرة كبيرة على اختزال تاريخ الصراع في شبه الجزيرة الكورية من خلال عدد من الجمل والتصريحات المعبرة من الناحيتين الإنسانية والسياسية. ونجحت القمة في الكشف عن بعض الجوانب الإنسانية في شخصية كيم جونج أون. هذا التواصل «العالمي» المباشر، وطريقة هذا التواصل، كسرت في شكل كبير الفجوة العالمية مع هذا النظام، وكسرت مسألة الحديث عن شخص بدا مجهولاً في شكل كبير للعالم، وهو ما يعد في الحقيقة مكسباً سياسياً لكوريا الشمالية.


لكن، مع أهمية هذه المعاني والدلالات الإيجابية، فإن المبالغة حول دور هذه القمة في جر المنطقة إلى تسوية تاريخية لأزمة البرنامج النووي، لا تستند في الحقيقة إلى ما يبررها، سوى حجم القلق الذي انتاب العالم خلال النصف الثاني من العام 2017. ونشير هنا إلى ثلاث ملاحظات مهمة تعكس الثقل النسبي المحدود لهذه القمة في سياق التطور التاريخي للصراع، وتعكس أيضاً عدم دقة المراهنة على الدور الذي يمكن أن تلعبه في تحقيق التسوية التاريخية المأمولة.

الأولى، تتعلق بحجم الثقل النسبي الذي استحوذت عليه «معضلة» البرنامج النووي الكوري في محادثات القمة، وهي مسألة يمكن الاستدلال عليها من خلال المساحة المحدودة التي أفردها البيان الصادر عن القمة لهذه «المعضلة» مقابل المساحة الأعظم التي استحوذت عليها قضايا العلاقات الكورية- الكورية، والقضايا الإنسانية المشتركة (برنامج لم شمل الأسر المقسمة)، وقضية الوحدة الكورية.

الثانية، وحتى مع عدم الأخذ بالدلالات الكمية للمساحة التي أُفردت لقضية السلاح النووي، فإن وضع التعهدات الواردة في البيان المشترك حول إخلاء شبه الجزيرة من السلاح النووي في سياق تاريخي يشير إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تصدر فيها كوريا الشمالية تعهدات من هذا القبيل. فقد تكرر التعهد ذاته في البيان الصادر عن المحادثات السداسية في أيلول (سبتمبر) 2005، والذي مثّل اختراقاً ضخماً في إدارة الأزمة النووية الكورية في حينه، وفي تاريخ إدارة الصراع، بل وتضمّن معالجة شاملة للمعضلة الأمنية في شمال شرقي آسيا. وهو الأمر الذي أعيد تأكيده في بيان المحادثات السداسية في شباط (فبراير) 2007، وكان بمثابة خريطة طريق لتنفيذ التعهدات الواردة في البيان الذي سبقه.

وأُعيد تأكيد الهدف ذاته في بيان القمة الكورية الثانية في تشرين الأول (أكتوبر) 2007. التعهدات بإخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي حتى ذلك الحين كانت أرقى في حجيتها القانونية، ودرجة إلزاميتها بالنسبة إلى كوريا الشمالية، كونها جاءت نتيجة مفاوضات شاقة مع الأطراف الخمسة المعنية بالأزمة (الولايات المتحدة، الصين، اليابان، روسيا، كوريا الجنوبية)، فضلاً عن أنها جاءت في إطار حزمة من الالتزامات المتبادلة. بل يمكن القول، إن التعهد المتضمن في بيان قمة 2007 كان يثير درجة أعلى من الصدقية بالنظر إلى صدوره في ظل موازين قوى وقدرات نووية وصاروخية لبيونغيانغ مختلفة جوهرياً عن طبيعة اللحظة الراهنة.

الثالثة، أن بيان قمة 2018 يشير إلى آلية جديدة للتعامل مع المعضلة النووية، وهي «المفاوضات الثلاثية» (الكوريتان، إضافة إلى الولايات المتحدة)، أو «المفاوضات الرباعية» إذا اقتضى الأمر إضافة الصين. وعلى رغم أن هذه الأطراف هي الأكثر ارتباطا بالأزمة، إلا أن هذا التوجه يعني ثلاث مسائل في منتهي الخطورة. أولاها، أنها تفتح الطريق أمام استبعاد الصين، إذا نجحت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية في إقناع كوريا الشمالية في الإبقاء على بكين بعيدة من إدارة هذا الصراع أو عملية التفاوض المرتقبة. وهي مسألة تؤسس لتوسيع الفجوة بين بكين وحليفتها بيونغيانغ، وتهميش الأولى في المنطقة في مرحلة لاحقة. ثانيها، أنه حتى مع اعتماد صيغة «المفاوضات الرباعية»، فإن هذه الصيغة تقوم على استبعاد قوتين مهمتين، هما روسيا واليابان، واللتين كانتا جزءاً من آلية المحادثات السداسية (2003- 2009)، ولا يمكن إغفال مصالحهما ذات الصلة بهذه الأزمة، وكونهما أيضاً جزءاً -بخاصة روسيا- من موازين القوى في المنطقة. وبينما لا يمكن إغفال الثقل الروسي والدور الذي يمكن أن تقوم به موسكو في إدارة هذا الصراع، يصعب تجاهل الدور المالي والاقتصادي الذي يمكن أن تقوم به اليابان في أية حوافز لكوريا الشمالية. ثالثها، وهي الأهم- أن استحداث آلية جديدة للتفاوض حول أزمة البرنامج النووي الكوري يعني انتهاء صيغة المحادثات السداسية، وصلاحية البيانات والاتفاقات الصادرة عنها، ومن ثم فتح المجال لشروط جديدة لنزع سلاح كوريا الشمالية النووي. صحيح أن صيغة المحادثات السداسية لم تعد مناسبة للتعامل مع تلك المعضلة بالنظر إلى قصرها على التعامل مع سؤال واحد: كيف يمكن إخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووي، من دون شمولها مصادر أخرى للتهديد، مثل القدرات الصاروخية الكورية، لكنها نجحت في الوصول إلى تعهدات مهمة، وقامت على شمول القوى الدولية والإقليمية المهمة في المنطقة. غاية القول، أنه على رغم الجوانب الإيجابية المهمة التي حملتها القمة الكورية الأخيرة؛ إلا أنها يمكن أن تعيد عملية إدارة الأزمة والصراع إلى مربعه الأول.

* كاتب مصري.