عمر كوش

بوفاة برنارد لويس، ينتهي جيل من كبار المستشرقين الغربيين الذين أسهموا في تشكيل الصورة النمطية للشرق في العقل الغربي، خصوصاً صورة الإسلام والمسلمين، لكنه افترق عن معظمهم في علاقاته وتأثيره في صانعي القرار، وبالتحديد ساسة الولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً المحافظين الجدد وأوساط اليمين الأميركي، وليس آخرهم مايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي الحالي الذي اعترف بأن الفضل الكبير لفهمه منطقة الشرق الأوسط يعود إلى هذا «الرجل العظيم»!

أثارت أطروحات برنارد لويس في محاضراته ومؤلفاته الغزيرة (أكثر من ثلاثين كتاباً)، وانحيازه السافر إلى إسرائيل ونزوعه العنصري تجاه العرب والمسلمين، إشكالية علاقة المعرفة بالسلطة، التي طورها الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، وجسدها لويس بعد أن أدخلها في سياقات جديدة من توظيف المعرفة، في إطارها النظري، خدمة لسلطة المتنفذين والساسة في الولايات المتحدة، حيث قدم أنموذجاً لهذا النوع من الخدمات، وفي الجانب الأكثر إطلاقية وتحيّزاً وغطرسة، إذ لم يتردد خلال مجمل حياته (31 أيار/ مايو 1916 – 19 أيار 2018) ونشاطاته الأكاديمية، الممتدة بين جامعتي لندن في بريطانيا وبرنستون في الولايات المتحدة عن توريط نفسه في الأحداث التي عصفت بالعالم منذ منتصف خسمينيات القرن الماضي، خصوصاً في المنطقة العربية وجوارها، وعن تجيير كثير من معرفته العلمية ليرفد أفكار الصراع والصدام بين الثقافات والحضارات، التي لاقت رواجاً كبيراً بين رموز الإدارة الأميركية إبان حكم جورج بوش الابن، حتى صار لويس، بعد أحداث 11/9/2001 الإرهابية، محط أنظار الساسة في واشنطن، وهدفاً لاستقطاب جديد، حين دعاه كارل روف إلى البيت الأبيض، وبات له مريدون ومعجبون في أوساط المحافظين الجدد، خصوصاً ريتشارد بيرل وديك تشيني، وكانت القائمة طويلة، وامتدت لتصل إلى صديقه بنيامين نتانياهو، الذي اعتبره «أحد أعظم المؤرخين المعاصرين»!

وكان لافتاً ترويج لويس لأفكار معادية للعرب والمسلمين في الولايات المتحدة، حيث الجمهور فيها لا يمتلك وعياً معيَّناً بالشرق وبالعرب وبالإسلام، بخلاف الأجواء الأوروبية، مع أن الأفكار المسبقة والسلبية عن الإسلام كانت متداوَلة بين الإنجيليين الجدد، وبين المحافظين الجدد، وهي لم تظهر بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 2001، ربما تأججت واستفحلت، لكن أفكار ومقولات هنتنغتون وفوكوياما، ذات الأبعاد والنتائج الاستراتيجية كانت لها دلالات بالغة في هذا الجانب، خصوصاً أن الجانبين الأيديولوجي والثقافي كانا يطغيان على حساب الجانبين المصلحي والبراغماتي، للمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة. وكان الخطير في الأمر أن القضايا الأيديولوجية والثقافية تركت آثاراً غائرةً في الوعي وفي السلوك، وعلى مدى طويل. وربما من سوء الحظ أن السياسات والرؤى السائدة، كانت تركز على العوامل الثقافية في صنع الأحداث والسلوكيات، حتى صار الخطاب السياسي المسيطر في الولايات المتحدة خطاب قوة، بعد أن تغلّبت فيه لغة الإرادة على العقل، وأنتج ذلك خطاباً صادراً عن سلطة مهيمنة وعظمى.


هكذا أصبح الإسلام وفق منطق برنارد لويس بنية إرهابية، تشكل خطراً مباشراً على الحضارة الغربية، بعد أن تعرضت ماهيته الثقافية للتغيير والتحوير، وتمّت إعادة تأويله وتفسيره وفق المقتضيات السياسية للخطاب الأميركي اليميني، بما يجعل الحضارة العربية الإسلامية حضارة السيف والقوة، أي حضارة تنتج الإرهاب، وبالتالي فالمسلمون لا يكنون سوى العداء للآخرين، ويمثلون العدو الجديد الذي يتربّص بأميركا والغرب، وهذا عائد إلى طبيعة الإسلام ذاته، فلا سبيل إلا مواجهته والتصدي له بالقوة.

أثار كتاب لويس، «من بابل إلى مترجمي العصور الوسطى»، حماسة المحافظين الجدد، مع أنه مجموعة مقالات كتبها في موضوعات مختلفة، تراوحت بين مترجمي «العصور الوسطى» وبين اليهود في فارس القديمة وصولاً إلى صدام حسين، وطالب فيه الولايات المتحدة الأميركية بأن لا تكون متساهلة جداً! كما فعلت في حرب فيتنام، بل عليها التخلص من ديكتاتوريات الشرق الأوسط بالقوة العسكرية.

أما في كتابه «ماذا كان الخطأ: التأثير الغربي والتجاوب الشرق أوسطي»، فقد خرج عن حياده العلمي ونزاهته الأكاديمية ليقدم دعوة صريحة إلى التدخل في شؤون دول الشرق الأوسط، بذريعة «إقامة الديموقراطية» فيها، وأعلن أن سكان الشرق الأوسط، العرب والإيرانيين، فشلوا في اللحاق بالحداثة، وسقطوا في دوامة متزايدة من الحقد والغضب. وكان مسعاه هو توفير الغطاء الأخلاقي لمبدأ جورج دبليو بوش في «الضربة الاستباقية» و «تغيير النظام» في العراق، ولا شك في أن فرحته كانت عارمة بعد سقوط بغداد ونهب تراث العراق الحضاري والإنساني.

ولا شك في أن رجلاً مثل لويس كان يعرف تماماً التاريخ المعقّد والموقع الهام للشرق الأوسط، وعرف كيف يسخّر معرفته في تحديد الخطوة التالية «لبناء عالم أفضل لأجيال عدة»، بعد أن تجاوز دوره كمنظر ومدافع عن الكولونيالية، كما وصفه إدوارد سعيد، ليخطو خطوة باتجاه خدمة النزوع الإمبراطوري، والانتصار لحروب وسياسات المحافظين الجدد، الذين رفعوا رايات الحرب.

وكان لويس أعلن تفكك العالم العربي وموته منذ حرب الخليج، وهو بلا شك محق في ذلك، لكنه حق مبطن بباطل، لكونه اعتبر إسرائيل الدولة الناجحة في منطقة الشرق الأوسط. ودعم موقفه هذا في مجلة «فورين أفيرز» في 1992 حين كتب: «إن غالبية دول الشرق الأوسط مصطنعة وحديثة التكوين هي مكشوفة لعملية كهذه. وإذا ما تم إضعاف السلطة المركزية إلى الحد الكافي، فليس هناك مجتمع مدني حقيقي يضمن تماسك الكيان السياسي للدولة، ولا شعور حقيقياً بالهوية الوطنية المشتركة، أو بالولاء للدولة- الأمة. وفي هذه الحال تتفكك الدولة- مثلما حصل في لبنان- إلى فوضى من القبائل والطوائف والمناطق والأحزاب المتصارعة».

ورأى لويس أن صعود الحركات الإسلامية وتراجع التيارين القومي والاشتراكي يقدمان الدليل على أن الردود العربية والإسلامية على الهيمنة الغربية مغرقة في التعصب الديني اللاعقلاني، بدءاً من المقاومة الفلسطينية وانتهاء بالخطاب الفكري المعادي للإمبريالية.

ولهذا كان مرتاحاً إلى صعود زعامات متطرفة من أمثال أسامة بن لادن، حيث وصفه بأنه ذلك «الصوت الشاعري البليغ المعبّر عن الغضب الإسلامي»، لأنه كان يمثل برهاناً على صحة نظريته.

وبرز دور برنارد لويس في تعميم مجموعة من الأحكام والمقولات على المسلمين، عندما وضع كل شعوب العالم الإسلامي، وبالأخص العرب، في خانة واحدة موحدة، ثم بنى بواسطتهم جبهة صلبة في مواجهة الغرب، ساحباً على أحكامه مستلزمات التعميم الذي شيّده بواسطة الاختزال والتبسيط، كي تتلاقى مع أفكار الصراع والعداء التي روّج لها، ففي كتابه «أزمة الإسلام: الحرب المقدسة والإرهاب غير المقدس» الصادر بالفرنسية، أكد لويس أن الجزء الغالب من «أزمة الإسلام» يرتبط بطبيعة ذاكرة المسلمين التاريخية، محاولاً تحويل المسلمين إلى عدو جديد للغرب، وبالتحديد للولايات المتحدة، حيث استنتج من العلاقة الغامضة والعابرة ما بين بعض القادة العرب وألمانيا النازية أن العرب كانوا حلفاء للنازية، كما استنتج من علاقات التعاون العسكري والاقتصادي، التي قامت في مرحلة الحرب الباردة بين بعض الدول العربية والاتحاد السوفياتي، دليلاً على أن العرب كانوا كذلك حلفاء للشيوعية، وبالتالي فإن العداء للغرب متأصل لديهم.

والأدهى هو إرجاعه الاستياء العربي من سياسة الولايات المتحدة الأميركية تجاه القضايا العربية إلى الحملات الصليبية، وإلى التعاليم الإسلامية التي توصي بالجهاد، بحجة أن العرب رأوا في الصليبيين نمطاً أولياً للغزو الإمبريالي الأوروبي المبكر للعالم الإسلامي، وحاول وضع حاضر المسلمين والعرب في امتداد خطي متواصل مع ماضيهم القريب والبعيد.

ولعل المنطق الذي استند إليه لويس في مجمل ما طرحه كان يفتقر إلى رؤية العالم كما هو، لأن العالم ليس مقسوماً إلى عالم إسلامي موحد مقابل عالم غربي (مسيحي) موحد أيضاً، ولم تشهد أية لحظة من تاريخ العالم مثل هذا التقسيم الثنائي، كما أن العالم الإسلامي في الربع الأخير من القرن العشرين لم يكن محكوماً بوعيه التاريخي المعادي للغرب المسيحي، فالشرق كما الغرب لم يشكل أيّ منهما كياناً واحداً في تاريخه، إنما ميتافيزيقا التمركز والفصل والإحالة التي يصدر عنها لويس وأمثاله هي التي قسّمت العالم إلى ذوات متعارضة ومتصارعة، وفق ثنائيات متقابلة، تؤجج الصدام والصراع.