ميسون الدخيل

سعدت كثيرا بقرار الملك سلمان بن عبدالعزيز فصل الثقافة عن الإعلام، ومن ثم إنشاء وزارة خاصة بالثقافة، فلمثل هذه الوزارة دورٌ هام ليس محليا فقط بل عالميا أيضًا، هذا بالإضافة إلى دورها في دعم اقتصاد البلد من خلال عدة فعاليات ومبادرات سوف تظهر بالتأكيد تباعا بإذن الله، لقد تطرقت في مقالات سابقة إلى تعريف الثقافة عامة والمثقف خاصة، أما اليوم فسيكون حديثي عن تأثير الدبلوماسية الثقافية في دعم الاقتصاد، وبناء إستراتيجية وطنية تعنى بهذا المسار، لأن دورها ليس فقط في التواصل مع الثقافات الأخرى، بل أيضا في خلق مجالات صناعية عصرية ومتنوعة، مما سيتيح فرص عمل أكثر للشباب من الجنسين، وهذا يتسق تماما مع عدة أهداف لرؤية 2030، كما يجب ألا ننسى أن الرؤية الواضحة والتخطيط والتنفيذ السليم هي أيضاً مفتاح لنجاح هذه الإستراتيجية إن تم اتخاذ قرار بدء العمل بها.


نحن نعلم أن الثقافة أنواع منها التقليدية والشعبية والعصرية.. إلخ، وما يهمنا هنا اثنان منها؛ التقليدية والشعبية، الأولى تتعلق بالدراما والموسيقى والفنون التشكيلية والآداب والعلوم، والثانية مثل الفولكلور والغناء والرقص والتراث والأزياء، وإن العمل على نشر هذين النوعين من الثقافة حول العالم وعلى مدار العام، خاصة في أوقات مصاحبة لانعقاد المؤتمرات العالمية، يمثل حجر الأساس للتفهم العالمي للسياسة السعودية من إستراتيجيات وخطط ومساهمات دولية، إضافة إلى نشر وجهات النظر الخاصة بشأن القضايا العالمية والمحلية، وليس أفضل من هكذا منصة للمساهمة في قبول مثل هذه الرسائل الهامة والحيوية، لقد دخلنا القرن الواحد والعشرين وما زال العالم يتعامل معنا على أساس صور نمطية يعلمها الجميع من خلال متابعة الإعلام العالمي، ومما يدعو إلى التفاؤل أن شعوب العالم في تعطش دائم لمعرفة المزيد ليس عنا فقط، بل عن شعوب العالم الأخرى أيضا، والدليل على ذلك ازدهار الدبلوماسية الثقافية الروسية مؤخرا بعدما ما كانت تعتبر مسجونة خلف جدار حديدي، فقد ظهرت للعالم بحلة ثقافية تقليدية وشعبية شدت الانتباه، وأثرّت في نسب المتابعة. وأيضا الدبلوماسية الثقافية اليابانية التي أبهرت العالم ليس فقط بالثقافة التقليدية، بل أيضا بالثقافة الشعبية، مثل البوب والرسوم المتحركة والألعاب الإلكترونية، والتي روجت لمثل شخصيات «المانجا» كشخصية «ناروتو» والمنتوجات المصاحبة لكل ذلك، والتي بالمناسبة لم تكن تعيرها اهتماما من قبل، بل ظهر بينهم من يعترض عليها لأنها في نظرهم لا تمثل اليابان أو ثقافتها التقليدية، ولكن عندما شعرت اليابان بمدى تأثير الثقافة الشعبية على شباب العالم أولتها جلّ اهتمامها، خاصة لأنها فتحت مجالات صناعية واقتصادية حديثة، أصبحت تدر أرباحا مالية عالية تدعم اقتصاد البلد، ونحن لدينا شخصيات من تراثنا نستطيع أن نحولها ونستخدمها بنفس الطرق، وبذلك لا نكون قد نشرنا من خلالها صناعة للاستثمار فقط، بل أيضا شخصيات تنشر قيمنا وعادات مِن تراثنا نفتخر بها.
نحن حين ننشر ثقافتنا لا نعرضها للبيع، فهي ملك لنا ونفتخر بها، ولكن ما نفعله هو المشاركة وفتح أبواب أكثر للتواصل مع العالم الخارجي، وحين نستفيد محليا من هذا التواصل بفتح صناعات حديثة للثقافة الشعبية تماما مثل ما فعلت دول غيرنا واستفادت اقتصاديا، لا نكون قد ارتكبنا جريمة بحق ثقافتنا، بل هو دعم واستثمار لها، وفتح منابر لغيرنا من أجل فهم التنوع الثقافي السعودي الثري والعريق، والذي يمتد من الماضي إلى الحاضر.
لنفعّل الملحقيات الثقافية السعودية حول العالم، ولنبدأ بمشاركة القطاع الخاص محليا ودوليا في إنشاء معاهد سعودية، ليس لتعلم اللغة العربية فقط، بل أيضا لتعلم كيفية التعامل مع الثقافة والفنون السعودية والتعرف عليها، ثم إن الثقافة ليست ندوات ومحاضرات وصورا وأفلاما فقط، بالإمكان البدء في التمدد إلى القرى والمدن وليس فقط العواصم، بأن نختار مبنى ونحوله إلى معرض مجهز بمقصورات تتضمن فعاليات وعروضا مختلفة تمثل ثقافتنا المتنوعة، وأن نشارك في الفعاليات الصيفية، سواء أكانت مهرجانات أو معارض، ولكن نبدأ أولا من هنا، من قلب الوطن مع الشباب، ونعمل على خلق مجموعات تفكير للخروج بمشاريع إبداعية، تقدم التراث بطرق تجذب الشباب والأطفال، بالإضافة إلى النساء وكبار السن، أفكار يمكن استثمارها فيما بعد في صناعات تنتشر عبر الإنترنت لتصل إلى أكبر عدد منهم حول العالم، وبعدها تتنقل في المعارض التي يتم اختيارها، ولا ننسى مشاركة المجتمع المحلي لتلك الدول، مثل الإعلان في المدارس والجامعات والشركات من خلال دعوة الجميع إلى الحضور والاستمتاع، نعم المفتاح هو الاستمتاع، وبالتالي الشراء، وبعدها تفتح الأسواق العالمية أمام هذه الصناعات المحلية.
إن رواج المعارض وفعاليات التبادل الثقافي سوف يسهم بشكل كبير في تعريف العالم بالمناطق السياحية الرائعة في بلدنا، وبذلك تزدهر لدينا السياحة وكل ما يتعلق بها من خدمات وصناعات، فحين يتعرف مَن في الخارج علينا، ويتذوق شيئا من تراثنا، سوف يتشجع على زيارة هذه المناطق والاستمتاع بخبرات حية كما يفعلون مع بقية المعالم السياحية حول العالم، ما قدمته ليس شيئا جديدا، ولكن إن تم التفكير فيه بجدية فسوف يخرج بأشياء جديدة؛ فعاليات يخطط لها في الداخل وتنفذ في الخارج بمساهمة القطاعين العام والخاص داخل الوطن وخارجه، والأهم من ذلك كله بأيدي شباب مبدع مستعد للتحرك متى ما أعطي الفرصة لذلك.