محمد السماك

لا يمكن فهم السياسة الأميركية من القضية الفلسطينية ومن قضية القدس بصورة خاصة، بمعزل عن فهم العلاقة الجدلية بين الحركة الصهيونية – اليهودية والحركة الإنجيلية المسيحانية في الولايات المتحدة.

تتمتع الحركة الأولى بقوة ضغط قوي وبنفوذ واسع في فضاء السياسة الأميركية كما هو معروف. وجانب من هذه القوة ذاتي، مالي وإعلامي. ولكن الجانب الأكبر منه مصدره الحركة الثانية. ويعود السبب في ذلك إلى تقاطع مصالح الحركتين. الحركة الصهيونية اليهودية هدفها الأول والأخير إقامة إسرائيل لتكون وطناً يهودياً قومياً لجميع يهود العالم. أما الحركة الإنجيلية المسيحانية التي تُعرف باسم الحركة الصهيونية المسيحانية، فإنها تعتبر أن إقامة إسرائيل ليس هدفاً بحد ذاته، ولكنه مجرد وسيلة لا بد منها من أجل الهدف الأسمى والأهم، وهو العودة الثانية للسيد المسيح، ذلك أنه في الأدبيات الدينية لهذه الحركة، فإن المسيح لن يظهر إلا في مجتمع يهودي، كما حدث في المرة الأولى. وأنه لن يعلن عن ظهوره وعودته الثانية إلا في الهيكل اليهودي، ولذلك لا بد من بناء الهيكل في القدس، ليس بالضرورة حباً باليهود، ولكن حباً بالمسيح وعودته. تؤمن الحركة الأولى –اليهودية- بأن إقامة إسرائيل يحقق وعد الله ويجسده وهو هدف إلهي نهائي في حد ذاته. أما الحركة الثانية – المسيحانية – فتؤمن بأن إسرائيل هي مجرد جسر عبور لتحقيق إرادة الله بعودة المسيح، وأن اليهود الذين لن يتّبعوه هذه المرة –أي بعد عودته – سيكون مصيرهم جميعاً جهنم خالدين فيها، إذ لا يهودية بعد العودة الثانية، وكذلك لا إسلام ولا هندوسية أو بوذية، أو أي عقيدة أخرى، ولذلك فإن مساعدة اليهود على إقامة إسرائيل لا تتم إيماناً بمشروعهم. ولكنها استجابة لا بد منها من أجل اكتمال شروط العودة.

يعرف اليهود جيداً هذه الثوابت العقدية لدى الإنجيليين الصهاينة. ويعرفون مدى كراهيتهم لهم، إلا أنهم يتعاونون معهم على قاعدة: ساعدونا الآن على قيام إسرائيل وعلى تهويد القدس، وبناء الهيكل؛ وإذا عاد المسيح ثانية، فإننا سنحتكم إليه. فالمهم لديهم ليس ما سوف يحدث عندما يعود المسيح – بل إن المهم هو تحقيق المشروع الصهيوني اليهودي بقدس مهوّدة كلياً. فاليهود لا يؤمنون أساساً بفكرة العودة الثانية لأنهم يعتقدون أن المسيح لم يأتِ بعد، وأنه عندما يأتي سيكون منهم ولهم.
هذه الجدلية في العلاقة بين الحركتين اليهودية والإنجيلية تمثلت في الاحتفال الذي أقيم بمناسبة نقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس تنفيذاً لقرار الرئيس دونالد ترامب. ففي هذا الاحتفال نظمت صلاة خاصة ترأسها أسقف مدينة دالس في الولايات المتحدة روبرت جيفرس Robert Jeffress، وهو أحد كبار قادة الحركة المسيحانية الصهيونية. ومن الأقوال الموثوقة المنسوبة إليه في كاتدرائية دالس قوله: «إن ديانات مثل المورمون والإسلام واليهودية والهندوسية، تقود أتباعها إلى جهنم في انفصال تام وكامل عن الله».

ليست الحركة الصهيونية المسيحانية (الإنجيلية) مجرد زائد واحد إلى عدد الحركات الدينية في الولايات المتحدة. فهي حركة واسعة الانتشار (70 مليون عضو). ومن أعضائها شخصيات مرموقة في المجتمع الأميركي، سياسية وعسكرية ومالية ودينية. وتنتشر قاعدتها الشعبية في الولايات الجنوبية (التي توصف بالحزام الإنجيلي Biblical-Belt)، وفي وسط البلاد (حيث المجتمعات الزراعية ). ومعروف عن هذه المجتمعات أنها عميقة التدين، وشديدة التعلق بالتعاليم التي يقول بها قساوسة الحركة ووعّاظها. وقد شكلت القاعدة الشعبية الواسعة التي حملت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ولذلك اختار ترامب مايكل بنس أحد قادة هذه الحركة، وأحد أبرز رموزها، ليكون نائباً له. ولقد شبه السيد بنس رئيسه ترامب خلال الاحتفال بنقل السفارة الأميركية إلى القدس «بالملك داود»، الملك التوراتي بالنسبة لبني إسرائيل.

من هنا يبدو واضحاً أن الرئيس ترامب بتنفيذ قراره باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، يصيب عصفورين بحجر واحد. فهو من جهة أولى يعزف على وتر الأحاسيس الدينية في قاعدته الشعبية فيزيد من قوة ولائها له ودفاعها عنه، وهو من جهة ثانية يستقطب تأييد اللوبي اليهودي الأميركي (إضافة إلى إسرائيل) في معاركه الداخلية المتفاقمة.

وسواء كان الرئيس ترامب شخصياً مؤمناً بنظرية العودة الثانية للمسيح وبشروط هذه العودة (كالرئيس الأسبق رونالد ريغان مثلاً)، أو غير مؤمن (كالرئيس كلينتون) فإنه يتصرف، وكأنه مؤتمن على تنفيذ هذه النظرية بكل تفاصيلها ومستلزماتها. تعكس ذلك التبريرات التي أطلقها سواء في قرار اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، أو في قرار إقامة المبنى الجديد للسفارة في القدس وخاصة بمناسبة الاحتفال بالذكرى السبعين لإقامة إسرائيل.