كل شيء يتغير في المغرب من أجل ألا يتغير أي شيء 

محمد بلعيش

 بعيد الانقلاب على المنهجية الديمقراطية سنة 2002، كتب الدكتور محمد عابد الجابري رحمه الله مقالا تفاعليا مع اللحظة التاريخية –الجديدة القديمة-من جملة ماورد فيه، أستعير هذه الحقيقة المرة والمؤلمة في الآن نفسه: "كل شيء يتغير في المغرب من أجل ألا يتغير أي شيء".

لست من جيل سنوات الجمر والرصاص، ولكني عشت بعضا من تفاصيلها المرة بين دفاف كتب خطت بدموع العيون المعصوبة، ودماء لسعات السياط الجبانة قبل الحبر. كما لا أزعم أنني مناضل لا يشق له غبار، ولكني مواطن مثل الآلاف من أبناء جيلي، حلم ويحلم بغد أفضل ووطن تتسع جغرافيته، وثروته، وسياحته، ودفئه، وصحته، وتعلميه النافع الخ للكل على خلاف سحناتهم، وألبستهم، وألستنهم، ومللهم، ومذاهبهم. وهذا الحلم يجب أن يحاصر بالجنون لأبعد الحدود، إن لم يكن من أجلنا، فمن أجل أولادنا.

"كل شيء يتغير في المغرب من أجل ألا يتغير أي شيء"

فخلال العقدين الماضيين، تغيرت أمور كثيرة. لكن في العمق ظل الحال هو الحال، لا يسر عدوا ولا حبيبا. توارت الصور التي كانت تعلو جدران أقسامنا، وإداراتنا، وحتى شوارعنا، وفسحت المجال أمام صور عهد جديد. هاجر بعض سدنة المعبد المظلم إلى عاصمة الأنوار، متحسرين على زمن تليد ذهب بلا رجعة. سدنة لخصوا الدم المغربي الساخن-الذي أريق بدم بارد-في "كوميرة".

عاد من حرم من تراب هذا الوطن لسنوات طويلة. أنصف ولو جزئيا من قضوا زهور أعمارهم في الأقبية بين برودة السجن ونذالة السجان. تحدث الضحايا علنا وسردوا أعاجيب الجلادين وقسوة سدنة المعبد القديم. روايات أبكت أحجار هذا الوطن، قبل المقل.

طوينا صفحة اغتصاب صناديق الاقتراع في الليل، المفضي إلى إنجاب كائنات سياسية نتنة في اليوم الموالي. ثم حدث أن احترق البوعزيزي، واحترق معه وطن كامل من "المحيط إلى الجحيم، ومن الخليج إلى الجحيم" بتعبير محمود درويش، فانتشينا بتميزنا، ورقي نضالات هذا الشعب، التي أفضت إلى دستور جديد في مغربنا، وتفاءلنا ربما أكثر من اللازم بالمستقبل. فجأة، وفي غفلة من التفاؤل، وجدنا أنفسنا محاصرين من كل الجهات بوهم وسراب التغيير. وكأن حراس المعبد القديم انبعثوا من رمادهم كطائر الفنيق.

"كل شيء يتغير في المغرب من أجل ألا يتغير أي شيء"

في الوقت الذي كنا فيه كيساريين نشيد بالتغيير والانفتاح، كان غيرنا يغتصب بالقنينة في عتمة سجون يقال إنها نبتت على عجل في سكون الغابات. في الزمن الذي كان ضحايا سنوات الجمر والرصاص يسردون تفاصيل الزمن المر، كانت أيادي "أصحاب الحال" تدعو الجفلة إلى مأدبة تقليم الأظافر. فنال كل ذي زغب على وجهه حقه من الوليمة.

صمت اليسار -ولا أتحدث عن اليمين لأنه أصبح بلا صوت منذ أن اعتلاه صاحب "مولى نوبة" إلى يوم الناس هذا، ولا بتنا في أفضل حال مذ سقطنا في قبضة "نيرون"- صمت اليسار لأنه أصبح في موقع المسؤولية، وربما لأن بينه وبين الضحية ثأر قديم تعدى الفكر إلى الدم. الطعنة الغادرة التي تلقاها الوطن في ماي 2003، ما كان يجب أن تكون ذريعة للصمت بخصوص المظلومين.

عبرنا 2007 وما تلاها من محطات، والكل يقسم بأن زمن اغتصاب الإرادة الشعبية قد ولى، وأن طقوس العبادة الانتخابية في المعبد القديم تلاشت وأصبحت ذكرى غير مأسوف عليها. غير أن العبادة والإيمان درجات؛ فقد انتقلت الطقوس من ملامسة الصندوق إلى ملامسة جيوب المحتاجين ممن يذهبون إلى الصندوق قبل ساعة الصفر. فالأحزاب الإدارية التي كانت تضحك علينا بتصرفاتها، باتت تنال حصتها بسخاء بطرق ظاهرها الديمقراطية وباطنها البؤس و"الزرقلاف".

يحلو لنا في الملتقيات الدولية أن نتغنى باستقلال القضاء. فينبري المفوهون في الخطابة من اليسار إلى اليمين إلى الوسط يتحفوننا بالنموذج المغربي، ويعدلون عن قول كلمة الحق في حينها باسم استقلال القضاء. لكن فقط من يقضي بعض الزمن في ردهات المحاكم يعلم أن الهاتف ظل هو الهاتف، وأن الفرق في حبل سلكي لا أقل ولا أكثر.

وقد اكتويت بهذا الجور ذات ليلة من 2006، عندما فقدت نصف روحي بطعنة غادرة، وفقدت النصف الآخر يوم نطق الحكم. واليوم بوضع شباب في عمر الزهور خلف القضبان، لا لشيء إلا لأنهم طالبوا بالمستشفيات، والمدارس، والجامعات، ورحيل المفسدين، يكون القاضي ومن معه قد فتحوا أبوابنا مشرعة على المجهول، وتكون الأحزاب السياسية الغارقة في الصمت المخزي بذريعة استقلال القضاء قد سطرت أسماءها في مزابل التاريخ، ويكون المعبد القديم قد انبعث من رماده مرة أخرى.

بعد أبناء الريف الصامد، خرج أبناء الرغيف الأسود في جرادة الأبية، وخرج قبلهم العطشى في زاكورة، ولفح قبلهم لهيب الصقيع أبناء الجبال، وقد يخرج غدا الجوعى الذين لن تسد رمقهم حتما قفة رمضان. كل هؤلاء يجمعم قاسم مشترك هو "البحث عن الكرامة". حذار من الانفاق بسخاء على الكماليات أحيانا، والتوافه أحيانا أخرى، وتجاهل أساسيات هذا الشعب. حذار من استصغار هذا الشعب، وتذمره حتى في العالم الافتراضي، كما فعل جمال مبارك ذات يوم في مصر. حذار من إضعاف الأحزاب الوطنية، وصناعة الفقاقيع السياسية. حان الوقت لأن يختار الحاملون لأمانة هذا الوطن باختلاف مواقعهم بين جر قاطرته إلى الأمام، أو دفعها إلى الخلف. فخيار "مكانك سر" سينشئ حتما جيلا متمردا قد يجرب أمورا أخرى كما حدث في الماضي.

"قليل من التغيير في المغرب كاف لأن يتغير كل شيء"

لا أزعم أنه يمكن أن نصبح مثل اليابانيين إخلاصا في اليوم الموالي، ولا مثل الاقتصاد الصيني خلال السنة القادمة، ولا مدارسنا مثل فنلندا بعد خمس سنوات، الخ. ولكنني أومن بأن إرادة التغيير تكون بخطوات صادقة وصحيحة. وسأعطي مثالين عاينتهما بنفسي:

الأول: سجن باوياك Pawiak بمدينة وارسو البولونية

بني هذا السجن الرهيب بين 1829 و1835 عندما كانت وارسو تابعة لروسيا القيصرية. كان سجنا يجمع المعتقلين السياسيين إلى جانب المجرمين. وفي 1939 خلال الغزو النازي، أصبح واحدا من معسكرات الموت النازية. ومر من خلاله أكثر من مائة ألف رجل ومائتي ألف امرأة، أعدم فيه أكثر من سبع وثلاثين ألفا، ونقل منه ستون ألفا إلى مخيمات الموت. احتجز فيه المقاومون، مسيحيون ويهود. وفي سنة 1944 تم إعدام أعداد كبيرة من المعتقلين، وتم تدميره من طرف النازية، ولم يتبق منه غير عمود وثلاث زنزانات.

على الرغم من أن السجن يقع في قلب وارسو على شارع عريض، فلم يفوت ليصبح عمارة وشققا سكنية، كما يفعل وحوش العقار عندنا. كما لم يبن مرة أخرى ليستأنف عمله العريق، بل احتفظ بالعمود كما هو وبالزنازين وأصبح متحفا يزوره طلاب المدارس ويعتبروا، لتطوى الصفحة إلى الأبد وتظل بالكتاب البولندي.

الثاني: ثكنة Bellavista بسان خوسي كوستاريكا

ثكنة عسكرية بنيت سنة 1917، وكانت أحد المعتقلات التي استعملها النظام في الأربعينيات من القرن الماضي لتصفية المعارضة. مازال أحد أبراجها شاهدا على الحرب الأهلية التي عصفت بـ 2000 شهيد من الجانبين خلال 44 يوما فقط. ومازال أثر الطلقات النارية يذكر المارة قبل الساسة بويلات الانقسام. سنة بعد ذلك تحول المكان إلى متحف وطني، وتقرر إلغاء الجيش، وتحويل ميزانيته إلى التعليم والثقافة. والنتيجة أن نسبة الأمية في كوستاريكا أقل من 3 في المائة، ويصنف شعبها أسعد شعب في العالم، وتخطط لتصبح بلدا خاليا من انبعاثات الكربون سنة 2021.

عندما تم إلغاء الجيش قال الرئيس Jose Figueres Ferrer ما يلي:

حان الوقت لأن تعود كوستاريكا إلى وضعها الطبيعي، وتنتج الأساتذة بدل الجنود.

سعيدة هي الأم الكوستاريكية التي تعرف أنها عندما تلد فإن ابنها لن يكون جنديا أبدا.

نريد التعليم العام، البدني، والفكري والفني، والأخلاقي، الذي لا يأتي من المدرسة، ولكن أيضا من البيئة التي يكبر فيها الإنسان ويعيش. نرغب في إنشاء حد أدنى من الثقافة في بلدنا (...) نحن بحاجة إلى مزيد من الموسيقى (...) المزيد من الرسم والنحت، والمزيد من الفلسفة والشعر، والمزيد من الأدبيات.

ختاما، أريد القول إنه إذا كنا نريد أن نطوي صفحات الماضي الكثيرة في المغرب، فإن الطريق واضح وبسيط، ولا يحتاج التنفيذ إلى إجراءات تعقيدية. فإما أن نكون دولة ديمقراطية أو لا نكون، لكن من العبث أن تمتد بنا الرحلة على طريق الانتقال منذ عشرين سنة ونصل إلى هذه اللحظة المخزية من تاريخنا الحديث التي وزع فيها القضاء خمسة قرون من الأحكام الجائرة على شباب طالبوا، بحماس زائد وعقل مثقل بظلم الماضي، بواقع أفضل.

حان الوقت لنواجه تاريخنا المغربي باشراقاته وانتكاساته، وندونه في كتب التاريخ المدرسية من دون مركب نقص. ومن حق الأجيال الحالية والقادمة أن تعرف بأن النظام السابق كما بنى السدود وأكبر مسجد بعد الحرمين، قد بنى أيضا أبشع سجن ألا وهو تازمامرت. ولو كنا قد حولنا تازمامرت إلى متحف وطني، ونظمنا رحلات مدرسية وبينا للأجيال نتائج العنف والعنف المضاد، وخطر تدخل الجيش في السياسة وحثثناهم على نعم العيش المشترك، فلربما كنا تجنبنا مآسي ماي 2003 وما تلاها من ردة سياسة.