رنا الشهري

لافتة إعلانية موضوعة في مدخل المركز الموسيقي في العاصمة الفنلندية هلسنكي، وباللغتين الإنجليزية والروسية، تستقبل الزعيمين للقمة بعبارة: «سيدي الرئيس مرحبا بك في أرض الصحافة الحرة». 
هذه اللوحة تحمل دلالات تكريس البلد لخطوطها الصحفية الحرة، في اجتماع لرئيسين لا يتصالحان مطلقا مع الصحافة، ترمب عبر تغريداته وبوتين عبر سجونه. 


فنلندا تعد تقريبا البلد الأوروبي الوحيد الذي أفشل حرب النيوميديا الروسية ضدها عبر التحصين ضد المعلومات المزيفة التي تأتي من منظمات لها نفَس «توتاليتاري» كمنظمة «ناشي» وغيرها. الأمر الآخر هو من أجل رمزية هلسنكي في الذاكرتين الأميركية والروسية معا، فهلسنكي كانت المدينة التي التقى فيها الرئيس السوفييتي بريجنيف بالرئيس الأميركي فورد عام 1975، وأثمرت تلك اللقاءات نوعيا بإخماد الحرب الباردة، وفي عام 1990 قبل انهيار الاتحاد السوفيتي بأشهر التقى جورج بوش الأب مع جورباتشوف في هلسنكي، وقد حدث لقاء مماثل عام 1997 بين الرئيسين كلينتون ويلتسين في البلد ذاته.
وبالنظر للحالة الإعلامية، يمكن أن نرصد الفارق الشاسع بين نظرة الداخل الأميركي بمراقبيه ومسؤوليه للقمة المنعقدة بين ترمب وبوتين، ونظرة نظرائهم في الداخل الروسي. ثمة قلق متزايد لا معنى له بين الأميركيين من هذا اللقاء الخاص. 
وفي خضم المشهدية نفسها، هناك ابتهاج مقابل لا معنى له أيضا بين الروس مع إغراق الصحف بالبروباجاندا المتفائلة بإفراط، والمؤمنة تماما بصوابية الموقف الروسي وصلابته، وإن كانت الرؤى على هذا النحو تشكل قصورا قياسيا في تقييم تبعات الاجتماع.
المخاوف الأميركية محصورة غالبا في أن ترمب يرفض أي تحضير مسبق وأي أجندة مدروسة قبيل عقد القمة، وبأنه قد استعجل بهذا الاجتماع وأصرّ عليه، رغم تصريحات متفرقة للطرفين بأن ملفات كالملف السوري والأوكراني، والملفات التي تستخدم فيها الولايات المتحدة نفوذها الاقتصادي، كالملف الإيراني والعقوبات الاقتصادية، وحملة التعرفات الجمركية، وسباق التسلّح، يُتوقع أن تُناقش في اللقاء، إضافة إلى محاولات كثير من المنظمات الحقوقية رفع قضية السجناء الأوكرانيين في روسيا، وقضية إدوارد سنودن، لتكون ضمن النقاشات.
بحسب الكاتبة في النيويوركر سوزان جلاسر، فقد التقت بنحو 16 شخصية سياسية أميركية، بعضهم كانوا عملوا سفراء للولايات المتحدة في روسيا، وبعضهم مستشارين في البيت الأبيض منذ عهد ريجان، جميعهم أفصحوا عن قلقهم من عواقب الاجتماع في أجواء من السرية المريبة مع بوتين، وفي وجود مترجمين اثنين فقط، وكما ذكر لافروف فإن طبيعة اللقاء هذه اقترحها ترمب بنفسه، ووافق عليها الكرملين «لأننا أناس مهذبون» بحسب تعبيره.
هذا الاجتماع يعد سابقة تاريخية، أي أن يأتي اجتماع أميركي مع الروس دون تهيؤ دقيق من مسوغ المصلحة الجماعية، بينما موقع بوتين في الذهنية الأميركية عموما ليس موقعا هينا، مما استدعى أحد المحاربين الأميركيين القدامى للتعليق: (رجلنا هذا «ترمب» كأنما هو ملاكم هاوٍ يحاول أن يتبارى مع محمد علي كلاي). 
وفقا للخبيرة في الشأن الروسي فيونا هيل صاحبة كتاب «السيد بوتين العامل في الكرملين»، فإن المخاوف تتلخص في أن بوتين يدرس عقلية من أمامه، ويبوّب نقاط ضعفه ثم يهاجمه بها، وهذا اللقاء المنفرد سيسمح لبوتين بقيمة عليا على ترمب، وقد يتفق معه ترمب على أمور ما، ثم يعود إلى الندم عليها لاحقا، بينما ترمب يصف هذا اللقاء بعيدا عن الهذر المؤامراتي بـ«السهل»، مقارنة مع لقائه بالحلفاء في الناتو، وسماه بـ«اللقاء الفضفاض»، ووصفه بلقاء «عادي لمحاولة معرفته بشكل جيد»، وكأن الرئيس ذاهب إلى التنزه كما ترى جلاسر، ولهذا حاول روبرت مولر أن يستعرض اسم نحو 12 ضابط مخابرات روسيا تدخلوا في الانتخابات لدفع ترمب إلى رسم جدول محدد، وإرغامه على واحدة من المهام في مناقشاته، وهي قضية العبث الشائك في انتخابات 2016، خصوصا أن جولة ترمب التي سبقت قمة هلسنكي شملت توجيه نقد لاذع لزعماء الناتو في مسألة الإنفاق الدفاعي، ولألمانيا تحديدا، لأنها تعتمد حوالي 70 % من موارد الطاقة على روسيا، فما دواعي حمايتها منها في ظل وجود مشروع نوردستريم2؟، وفي بريطانيا تحريضه لـ«ماي» بأن تقاضي دول الاتحاد عوضا عن التفاوض معها، فإذا كان هذا التخبط هو ما حدث بشأن الحلفاء، فما الذي سيحدث مع دولة تعدّها الولايات المتحدة العدو الأبدي «روسيا»، ودون جهوزية تقوض كلفة المخاطرة؟ 
ورغم مجموعة المخاوف، فإن ترمب كان واضحا منذ البداية في وعوده الانتخابية، واستعادة سياسة الانعزالية، وحصر الاتفاقيات فقط فيما له مصلحة «مباشرة» للولايات المتحدة. 
عام 1952، عمد الرئيس الأميركي آيزنهاور إلى الخروج بالسياسة الجمهورية الأميركية من حالة العزلة إلى سياسة التعاون الدولي «التحالفات»، وللتخلي عن الانعزالية هذه قصة طويلة تعود إلى الأربعينات من القرن العشرين، لكن بعد 75 عاما نرى ترمب وهو يدفع بهذه السياسة نحو الخلف، ويعتنق المبدأ التوجيهي للسياسة الخارجية، متمثلا في تدمير الأممية الليبرالية كما ينظر إليها داعموه، والهرب من المتعلقات، والتخفف من أحمال الحلفاء التقليديين، طالما لا عوائد فورية لها، والتعاون إن لزم الأمر مع دول صنفت كعدوة للدخول في حالة الإصلاح دون الانشغال بالتحضيرات الدفاعية، وذخيرته في الضغط العقابي هي بالاقتصاد والمال، ولهذا قال ترمب قبل قمة سنغافورة مع زعيم كوريا الشمالية، «أعتقد أن التوافق مع روسيا والتوافق مع الصين والتوافق مع الآخرين أمر جيد».
أما في روسيا، فإن المراقبين وعبر سجالات الإعلام الحكومي يتفاءلون بأن ثمة تنازلات مؤثرة ستحدث لمصلحتهم، منها التساهل في قضية ضم القرم، ورفع العقوبات الاقتصادية أو عرقلة تنفيذها، وأيضا إعادة انضمام روسيا إلى مجموعة الدول الـ7، وكيف يمكنها استغلال التعريفة العقابية التي نالتها الصين من الولايات المتحدة، والتضييق الذي نالته إيران، صحيح أن روسيا اليوم تعد في موقع ممتاز للتفاوض، خصوصا عقب الحسم العسكري في الجنوب السوري تحديدا، وامتلاكها ورقة تجنيب الحدود مع إسرائيل الوجود الإيراني فيه، وثمة دعوات يمينية تستلطفها، مثل دعوة مارين لوبان من فرنسا، بأن الناتو يفترض أن يضم روسيا إليه في الحرب على الإرهاب، وتعاون اقتصادي مثمر مع ألمانيا، وعموم السياسات المنفردة المستقلة التي بدأت تتخذها دول الاتحاد الأوروبي ويمكن لروسيا استغلالها، وكل هذا سيحدث مقابل تنازلات زهيدة من جانب الروس كما يقرؤون الصورة، لكن لا ينبغي أن يبلغ الفأل هذا الحد المشبع، لأن هذه الحالة أوقعت بعض المراقبين الروس في فخ الاستخفاف بمجريات الأمور وتعقيداتها المتفرقة.
مثلا، ففي التلفزيون الرسمي الروسي يقول أليكساندر لوسيف، عضو في السياسة الخارجية الروسية، إن إستراتيجية الأمن القومي لا يمكن تغييرها من ترمب، لأن ترمب مِلكنا، تعيد عليه المذيعة كلامه: ترمب مِلكنا وهو لا يدعم العقوبات علينا، فيرد لوسيف: نعم، هذا ما يبدو. 
أيضا، يرى النائب نيكونوف، أنه قبل 6 أشهر فقط كانت هذه الزيارة غير معقولة، وبأنه في الماضي رفض الأميركيون التواصل مع نظرائهم الروس حتى عبر سكايب، لأن ذلك قد يرقى إلى مستوى الانتحار السياسي. وأضاف ببهجة أنه «لم يعد الأمر كذلك، حيث يبدو أن ترمب قد نجا من فخ مولر». 
هناك حالة استخفاف كبيرة في الإعلام الحكومي الروسي من المشرعين الأميركيين عموما، وبأن لهم السلطة المحركة في القمة، إذ يقول أحد السياسيين في التلفزيون الحكومي إن معظم أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي مثل ناخبيهم، لم يذهبوا أبدا خارج البلاد، ولا يمكنهم حتى أن يجدوا أوكرانيا على الخريطة، فهو مجرد تجمع من البلهاء. فيما تذكر رئيسة تحرير موقع روسيا اليوم، أنه رغم جهل الأميركيين وقلة تعليمهم، فهم يحاولون السيطرة على العالم، وللسياسي أليكسي جزورافليوف، عبر أحد البرامج، تفاؤله الخاص بأن بوتين سيثقف ترمب حول القرم، وسيقنعه بأنهم يتحدثون الروسية، لهذا فهي تتبع روسيا، وأيضا كثير من المغالاة بأن العقوبات الاقتصادية لم يكن لها أثر ملموس على روسيا، على الرغم من المعاناة الاقتصادية التي يتكبدها البلد الآن بالفعل.
لكن رغم هذا الشطط والإفراط في التوقعات، فإن ثمة خبراء من الطرفين الروسي والأميركي، لا يتوقعون أن تكون لبعض الملفات آثار عملية إلا بجوانب محدودة بالملف السوري، وليس على غيره لأن الوضع فيه لا يحتاج إلى المساومة بين الطرفين، بل قد تبلور بالفعل، ولم يعد يحتاج سوى إضفاء الصبغة الرسمية عليه، وأما باقي الملفات فهناك كثير من الأطراف فيها والإملاءات التي وإن حدث اتفاق بشأنها، فقد تعرقل الأثر التطبيقي لها.
إن نجاح بوتين في جعل زعيم أقوى دولة يقف إلى جانبه في هلسنكي، يمثل انقلابا غير متوقع في الأحداث بالنسبة للرئيس الروسي، فقبل 4 سنوات فقط، تناول بوتين طعام الغداء بمفرده في قمة مجموعة العشرين في أستراليا، إذ لم يكن هناك زعيم عالمي يتحضر للوقوف إلى جانب رئيس أعاد ترتيب حدود الدول، وسمم المواطنين على أراض أجنبية كما تزعم بريطانيا، واحتل أراض تابعة لدولة أخرى كما تنتقدها السويد، لكن القمة بتعدد احتمالاتها، تمهد لطور جديد في استهلال سياسة التوازنات بين البلدين، وتمثل تحولا ملحوظا في الأحداث.