عبدالله بن بخيت

لا أظن أن أحداً سينصح عزيزاً عليه بالالتحاق بقسم التاريخ أو الجغرافيا أو علم الاجتماع. تتركز هذه الأيام التخصصات المرغوبة على الطب والهندسة والكمبيوتر والعلوم المالية وغيرها من التخصصات المهنية التي تضمن الوظيفة. يكاد يكون ذلك نوع من عقيدة تفشت بين الناس. وقع في ذلك أيضاً المسؤولون عن التعليم الجامعي والبعثات.

لا شك أن العصر يفرض هذه الاتجاهات لضمان نجاح برامج التنمية. لكن علينا أن نتذكر أن الأمم لم ولن تتقدم بالفيزياء والكيمياء وإنما بالمفكرين والفلاسفة والأدباء. بريطانيا فرنسا أميركا اليابان لم تقم على العلم وإنما قامت على التفكير العلمي والوعي والفكر. قامت على الرجال الذين ألفوا في التاريخ وفي الفلسفة وفي العلوم الاجتماعية وفرضوا التنوير. ما كانت البشرية ستعرف لويس باستور مكتشف اللقاحات لو لم تعرف قبله الكاتب والمؤرخ والفيلسوف الفرنسي فولتير. إذا كان المجتمع في حاجة لمهندس مبانٍ، فالمجتمع في حاجة أكثر إلى مهندس اجتماعي ومهندس عقول.

 عندما ذهبت اليابان إلى الغرب للتعلم لم تعد فقط بمهندسين يصنعون محركات ولكنها عادت أيضاً بالثقافة والتنوير الأوروبي. المهندس لا يسهم في بناء الثقافة والوعي وشهادته لا تنجيه من الجهل والتعصب. انضم إلى داعش عدد كبير من الأطباء والمهندسين ولكن لا يمكن أن ينضم إلى المنظمات الإرهابية شاعر حقيقي أو روائي أو مؤرخ. توسع داعش في المجتمعات الإسلامية نشأ أساساً من انحسار المفكرين والمثقفين والفنانين.

راجع حركة الثقافة في السعودية أو مصر أو الكويت منذ الثمانينات في القرن الماضي إلى يومنا هذا. ستلاحظ حركة عكسية فضيعة. ففي الوقت الذي ينمو فيه الفكر المتطرف كانت أعداد المثقفين والحركات الثقافية في انحسار مطرد. تداعى المسرح في الكويت وتفشت سينما المقاولات في مصر وضمرت حركة الحداثة في المملكة. تدني الاهتمام بطبقة المثقفين عزز قيم الخرافة وقصائد أزيز الرصاص ورضاعة الكبير إلخ.

توجهات المجتمع الآن تصب في بناء المهن كأننا نريد أن نبني عمارةً لا مجتمعاً. يعمل في المملكة أعداد كبيرة من المهندسين والأطباء الأجانب ولكن على طول تاريخهم في البلاد لم يضيفوا قيمة ثقافية للمجتمع السعودي بمهنهم هذه. إحلال السعوديين مكانهم لن يغير من الوعي شيئاً. سنكسب أعداداً كبيرةً من الوظائف ولكن سنبقى في مكانك سر. وجهنا الدعوات لاقتصاديين ورجال بنوك وأقمنا الندوات الهندسية دون أن نقيم أي اتصال مع الحركات الثقافية في الغرب أو في اليابان أو الصين ولم تنشط حركة ترجمة.

إذا أردنا بناء مجتمع جديد يتوجب التركيز على الدراسات الإنسانية أولاً.