علي نون

أسوأ ما يمكن أن يضيف على مآسي المنتفضين في الجنوب العراقي، هو أن يتعرضوا إلى «رشقات» تضامن من بعثيين (سابقين!).. لكن هذه ليست أسوأ من اتهامهم بـ«الدعوشة».. و«البعثية» من قبل بعض أتباع إيران في بغداد!

و«التضامن» و«الاتهام» يدلاّن على نتيجة واحدة هي أن المنتفضين يتحركون بعفوية ووفق أجندة حياتية بسيطة ومباشرة عمادها المطالبة ببديهيات وأسس خدمات البنى التحتية أي الكهرباء ثم الماء! ويمكن تخيّل معنى غياب الخدمتين في بلد مثل العراق تبلغ درجة الحرارة في صيفه اللاهب أكثر من خمسين درجة مئوية! مثلما يمكن تخيّل سهولة اشتعال الغضب، عند شعب غاضب أصلاً! ويراكم على مدى أكثر من نصف قرن عذابات فوق قدرة أي بشري على التحمل!

بعض البعثيين «مصدوم» لأن الأمن أطلق النار على المتظاهرين! وصَدْمَتُه هذه، هي قصة في حدِّ ذاتها! باعتبار أن النظام الحزبي الآفل كان مثالاً يُعتدّ به في الأداء والممارسة، مبدئياً وتفصيلياً! وتراثه المتراكم على مدى حكمه وتحكّمه مثقل بوقائع «احترامه العريق» لكرامة العراقيين والعراقيات! ولاعتماده طرقاً في التعامل معهم سقفها الرمي بالورود في حال العجز عن الإقناع الفكري! أو كسب المحاججة بالرؤى والأفكار والنظريات المشتقّة من الدساتير والقوانين ومدوّنات حقوق الإنسان!

على أنّ قصّة «البعث» تتمّمها قصّة مَن جاء بعد «البعث»! فحصد الزرع النابت والقديم لكنه من بذور ذلك القطاف عاد وزَرَع بدوره! حتى وصل الحال بجموع عظيمة من العراقيين إلى حدِّ الشطط في استذكار «فضائل» صدّام حسين ومقارنتها بمثالب وارثي حكمه وسلطاته! وفي ذلك شيء من العدل لمن يشاء، باعتبار أن صدّام لم يدّعِ غير ما فعل! ولم يعرض إلاّ مكنوناته وخلاصاته ونتاجه! «ولا شيء غير السيف»! في حين أن «ضحاياه» الذين أفلتوا من محرقته وإن بأثمان باهظة، جاؤوا إلى خلافته لنقض إرثه في جملته، لكنهم أنتجوا غير ما ادّعوا! وأوصلوا العراق وأهله إلى تهتّك أسطوري عزَّ نظيره في التفّلت السياسي والمذهبي والخدماتي والفوضوي والسلاحي والفسادي.. وزادوا على ذلك ارتكاب جريمة تهشيم الروح الوطنية الاستقلالية (والعروبية) وبيعها فراطة لإيران وعمّالها ونفوذها ومراميها!

وبعض هؤلاء العمّال الإيرانيي الربط المصلحي والمذهبي، لم يستطع أن يرى سبباً وجيهاً يمكن أن يُخرج أهل الجنوب إلى الشارع! بل راح فوراً إلى اتهام المتظاهرين بالتبعية لـِ«داعش» حيناً ولـ«البعث» أحياناً! والفظاظة في الاتهام تدلّ على وعي بمدى هشاشة البناء الذي شيّدته إيران فوق حطام نظام صدّام، بحيث أنّ الهلع من تظاهرة مطلبية مُبرّرة وحقيقية بالتمام والكمال، كان كافياً للشعور بتهديد «مصيري» يطال «النفوذ» بكل عناوينه. وهذا بدوره كان كافياً لسوريالية صافية تسمح باتهام الشيعي البصراوي بأنه «داعشي»! والشيعي النجفي بأنه «بعثي»!

دخلت التفاصيل السياسية الراهنة على المشهد لكنها لم تعدّله. أي لا الكلام عن فرضية ذهاب إيران إلى «الضغط» الابتزازي رداً على ما يحصل معها أميركياً ودولياً. ولا الكلام عن ضغوطات محلية من قبل بعض الجهات لتوظيفها في معركة تشكيل الحكومة، كافٍ لطمس الخلاصة القائلة بأن شعب العراق لا يزال في موقع الضحية منذ خمسة عقود وأكثر.. وإن الجلاد واحد وإن اختلفت هويّته اليوم عما كانت عليه بالأمس. وإن إيران أينما حلّت، أنتجت مآزق وأزمات وليس عمراناً وحلولاً!