يقوم مجموعةٌ من الإخوة والأصدقاء في دبي منذ فترةٍ بجولاتٍ في أحياء منطقة «ديرة» القديمة، يحاولون فيها استذكار بيوت هذه الأحياء، والمحال التجارية القديمة التي لا يزال بعضها موجوداً فيها، وهي محال تعود إلى فترة الخمسينيات من القرن الماضي وما قبلها، وقد كانت ذاكرة بعضهم، ولله الحمد، قويةً، استطاعت أن توثّق تاريخ هذه المحال، فتذكّرت أصحابها الذين يواصل أبناؤهم إدارتها وتشغيلها حتى اليوم، بعدما امتدت يد الترميم إلى بعضها، بينما امتدت يد التحديث إلى بعضها الآخر، كما قاموا بزيارة مدرسة «الأحمدية» التي تم ترميمها قبل سنوات في منطقة «الراس» بديرة، وبين حجرات المدرسة استعاد بعضهم فترة دراستهم فيها، حينما كانوا صغاراً.

هذه الجولات بين ردهات الذاكرة وما بقي من معالمها على الأرض حتى اليوم، يقوم بتوثيقها الناشط في مواقع التواصل الاجتماعي محمد سلطان ثاني، وهو إعلاميٌ متخصصٌ في السينما، عمل في أكثر من صحيفةٍ محليةٍ، يقوم بهذا الجهد المشكور، ويقدّم محتوىً مختلفاً ومفيداً عبر زياراته للأسواق والأحياء القديمة، مصطحباً معه بعض الذين عاشوا في هذه الأماكن، ولا يزالون يتذكرون تفاصيلها، والعائلات التي عاشت فيها.

هذا التوثيق يلقى تجاوباً طيباً من قبل متابعي حسابه في منصة «إنستغرام» والذين فاق عددهم ربع مليون متابعٍ حتى الآن، يزدادون يوماً بعد يوم بفضل هذا المحتوى الذي يلقى قبولاً كبيراً، ليس من قبل الأجيال السابقة فقط، وإنما من قبل الأجيال الحديثة أيضاً، الأمر الذي يؤكد أن جيل اليوم حريصٌ على التواصل مع الماضي، وأن لديه شغفاً كبيراً بمعرفة حياة الآباء والأجداد، إلى درجة أن بعض الأبناء والأحفاد يتمنون لو أنه عاش تلك الفترة من الزمن، لما يستشعره من الترابط الاجتماعي الذي كان بين أفرادها، على الرغم من شظف العيش، وقلة الموارد، وصعوبة الحياة وقتها.

اهتمام إمارة دبي بالمحافظة على الأسواق والأحياء القديمة وترميم ما تأثر منها بفعل عوامل الزمن وتطويرها أمرٌ ملموسٌ، وهو جهدٌ تشكر عليه بلدية دبي التي تقوم بهذه المهمة للمحافظة على ما تبقى من معالم الذاكرة المتمثلة في الأسواق والأحياء القديمة، بعدما هجر سكان المدن القديمة أحياءهم إلى المناطق الجديدة التي بدأت تظهر منذ سبعينيات القرن الماضي، حتى غدت المناطق التي كانت ذات يوم نائيةً ومهجورةً هي الأماكن المفضلة للسكن في وقتنا الحالي، بينما تحولت الأحياء القديمة، التي كان يسودها الهدوء، إلى مناطق تعج بالحركة طوال ساعات اليوم، تختلط فيها اللغات واللهجات، تطغى على وجوه الذين يسكنونها ويملؤون طرقها سحناتٌ متعددة الأشكال والألوان، ليس من بينها سحنات وأشكال وألوان أولئك الذين كانوا ساكنيها ذات يوم.

حينما زرت «متحف الشندغة» بهرتني الطريقة التي تم بها إنشاء المتحف من ناحية إعادة بناء بيوت حي «الشندغة» القديم، التي كانت قد أزيلت بعدما هجرها أصحابها إلى المناطق الجديدة وحلّ محلها مجموعةٌ من المطاعم والمقاهي، وهي منطقةٌ مهمةٌ يقع فيها بيت الشيخ سعيد بن مكتوم، والد المرحوم الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، عليهما رحمة الله، وجدّ صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، إضافة إلى بيوت عددٍ من الشيوخ وأسر إمارة دبي الكريمة. هذا المتحف يُعدّ مثالاً نموذجياً للمتاحف التراثية المطلوب إقامتها، وهو يستقبل عدداً كبيراً من الزائرين يومياً.

ولا يفوتني أن أشيد بالجهد الذي قامت به الدكتورة رفيعة غباش حينما حولت بيت «بنات غانم» في منطقة ديرة إلى متحفٍ تراثيٍ جميلٍ أطلقت عليه «متحف المرأة». ذلك أن هذه المبادرات الشخصية تتكامل مع ما تقوم به الدوائر الحكومية للمحافظة على الذاكرة التاريخية للأماكن القديمة التي تشتاق لنا بقدر ما نشتاق نحن لها ولتلك الوجوه التي عاشت فيها، حيث وُلدنا ونشأنا وتشكلت ذاكرتنا الأولى، تلك الذاكرة التي لم تتلوث بعد، على الرغم مما تراكم عليها بمرور الزمن.

لماذا نحتاج الذاكرة؟

نحتاج الذاكرة لأننا من دونها مجرد أبدانٍ بلا أرواحٍ، ولا قيمةَ للبدن إذا غدا بلا روحٍ، ولا حنين إلى الماضي، ولا شغف.