يُعتبر الدكتور حسين كنعان، الذي درس "العلاقات الدولية وأنظمة القضايا العالمية وقوانينها" في الولايات المتحدة، وشغل فيها منصب أستاذ جامعي، ثم تولى منصب النائب الأول لحاكم "مصرف لبنان"، زمن الحاكم السابق القدير، الراحل إدمون نعيم، من أكثر الكتاب اللبنانيين والعرب، معرفة بالسياسة الأميركية، وبالركائز التي تقوم عليها هذه السياسة، وكتابه الأخير "مسار الليبرالية في الولايات المتحدة الأميركية" منشورات "دار نلسن" إضافة جديدة إلى ما سبق ووضع المؤلف من الكتب، عن النظام السياسي في هذا البلد. والحق أن ما حملني على اقتناء هذا الكتاب والكتابة عنه، معرفتي الوثيقة بالدكتور كنعان، وإعجابي بثقافته وميوله الليبرالية الحرة، واقولها من غير تردد، لو أن كتاباً آخر عنوانه كعنوان هذا الكتاب، وكان لكاتب من أصحاب الإيديولوجيات، ما كنت اكترثت وقرأت، لما في أسواق السياسة العربية من كتب لمؤلفين، تبعدهم رغباتهم وعقائدهم الحزبية والسياسية، عن النظرة الموضوعية إلى الأمور، فتغدو نصوصهم، أحادية الجانب، وفي كثير من الأحيان خاطئة ومضللة.
"مسار الليبرالية في الولايات المتحدة"، صحائف مثيرة، تهم رجال السياسية، والكتاب السياسيين، وأساتذة العلوم السياسية وطلابها. لأنه يتناول نظام دولة كبيرة وعظيمة، لقرارتها تأثير واسع على مستوى العالم. كان أستاذ الفلسفة الراحل شارك مالك يقول: "الله في السماء وأميركا على الأرض"، في تلميح واضح إلى الأثر الذي تحدثه سياسة هذا البلد في الدول وعلى حياة الناس. والحديث عن مسار الليبرالية في الولايات المتحدة، يدعونا إلى إنعام النظر في طبيعة هذه الليبرالية الأميركية، وإلى أي حد هي منسجمة، مع الدستور الذي وضعه "الآباء المؤسسون"، والكتاب على أي حال، يركز على هذه المسألة، التي لا بد وأنها تتبادر إلى ذهن الكثيرين من مؤيدي السياسية الأميركية، أو المعترضين عليها، أو المؤيدين لها في مكان ما على الخريطة، ومعترضين عليها في مكان آخر. والحديث عن أي الليبرالية هو حديث سياسي في المقام الأول، وقد تتغير طبيعة الليبرالية تبعاً للظروف، وحسب كل بلد وتاريخه وتقاليده، لكن مضمونها يبقى ثابتا، ويعني بجذره اللاتيني الأصل، الحرية بمعناها الرحب، أو كما يراها الدكتور كنعان بالمبدأ العام، "نقيض العبودية والظلم وهضم حقوق الناس"، هذا بغض النظر عن طبيعة الفوارق بين ليبرالية هذا البلد أو ذاك، أمر يؤكده المؤلف بقوله "الليبرالية ليست ذاتها في الدول التي تتبنى مسارها، فهي في الدول الإسكندنافية غيرها في أميركا لكنها تبقى ليبرالية، ما دامت تقوم على الحرية والعدالة وسيادة القانون".
مهما يكن الأمر، الليبرالية كمبدأ سياسي، لا تختلف في جانب معين عن المبادئ السياسية الأخرى من حيث أن تطورها يتوقف على مسلك الحاكم وسلوك المواطن، ولنا في عالمنا العربي المتخم بالعقائد الدينية والقومية خير دليل، خصوصا الدول العربية التي أخذت بشعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، فإذا هي أبعد ما تكون عن الوحدة والحرية والاشتراكية، ومنها التي اعتمدت الدين شعاراً، فإذا هي أبعد ما تكون عن "شرائع السماء". هذا يدفعنا إلى النظر في أثر السياسة على الليبرالية، التي قد تُشّوه الليبرالية أو تُجّملها، وذلك يبقى منوطاً بنظام البلد الذي يرفع شعارات الليبرالية، وبمن يمارسها من المواطنين. ومنذ وضع المؤسسون الأوائل الدستور الأميركي، القائم على الحرية والعدالة والمساواة، ارتكبت أميركا بحق نفسها وبحق الآخرين كثيرا من الآثام، وخيبت آمال من وقفوا إلى جانبها في حروبها ضد النازية والشيوعية، وآمال من كانوا يعتبرونها "أم العالم الحر"، فإذا أداؤها السياسي قد تغير، وأصبح من السهل على من يناهضها أن يُعّير حكامها، ويتهمهم بالنفاق، وممارسة سياسة المعايير المزدوجة، أو كما جاء في الإنجيل: "بالكيل الذي تُكيلون به للآخرين، يُكال لكم"!
وكما لا يوجد "إنسان كامل"، كذلك لا توجد "دولة كاملة"، وقد احتاجت أميركا منذ تأسيسها كدولة إلى زمن طويل، ليكون سلوكها منسجماً مع مبادئها إلى درجة معقولة نسبياً، علماً بأن هذا السلوك لم يبلغ بها يوماً حد الكمال. يقول مايكل هوت، عالم الاجتماع في "جامعة نيويورك" إن أميركا أصبحت الآن أكثر ليبرالية مما كانت عليه قبل 50 عاما، لكن سياساتها لا تعكس ذلك، ومواقفها وسلوكياتها الاستقطابية لم تتغير". من يعش في أميركا أو يعرفها جيداً، يلاحظ التغيير في ليبرالية هذه البلاد، خصوصا في قضايا مثل الجنس والعرق والإجهاض، وحقوق المثليين، والحريات المدنية للملحدين. في كتابه، يقدم الدكتور كنعان، مسالة الاختلاط في المدارس والجامعات والتمييز العنصري ضد الأميركيين من أصول أفريقية، مثالاً على هذا التغيير في السلوك. يشير إلى سجلات جامعة هارفرد، التي تبين أن أول طالب اسود درس الحقوق في هذه الجامعة كان يجلس في شرفة ملاصقة لغرفة الدروس، يسمع ويدون المحاضرات، من دون أن يراه الطلاب أو يشعروا بوجوده. ينّوه كنعان بالتطور الاجتماعي والسياسي الذي حدث داخل المجتمع الأميركي، وكيف أن طالبا أسود، هو باراك أوباما، تخرج في "هارفرد" نفسها، ليصبح في ما بعد، الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة.
في الفصل الذي عنوانه "الآباء المؤسسون"، يقول الدكتور كنعان "إن الرئيس جورج واشنطن كان الأول بين اقرانه، الذي لا يزال بنظر الأميركيين صانع الأمة". ينقل عنه رأياً مفاده أن على الدولة أن تتحلى بالرحمة والمهابة وأن لا تترك أمورها لأناس غير جديرين بتحمل المسؤولية. كلام يجعلنا نتساءل إلى أي حد يمكن للنظام الليبرالي أن يكون مثالياً، ومختلفاً عن الأنظمة الدكتاتورية، وأن نتساءل في الوقت نفسه عن الخطايا التي يمكن أن تُرتكب باسم الليبرالية، خصوصاً إذا تسلم مقاليد الحكم رئيس غير مؤهل لتحمل المسؤولية؟ يفيدنا الكتاب أن مسالة إعلان الحرب، حسب الدستور الأميركي، منوطة بمجلس الشيوخ "الكونغرس"، لكن بعض الحوادث الطارئة قد تتطلب قرارات سريعة، ولا وقت كافياُ للتشاور بشأنها مع "الكونغرس"، كما في قضية الصواريخ النووية في كوبا، إبان عهد الرئيس جون كنيدي سنة 1962. يومها، كما يقول الدكتور كنعان:" تُرك للرئيس كنيدي بمفرده أن يقرر مسارها، بحكم الدستور الذي منحه صلاحيات القائد العام للقوات المسلحة". في فصل آخر عنوانه "دستور الأمة الأميركية" يصف الدكتور كنعان اكتشاف أميركا بالحدث الكبير "الذي كون صفحات تاريخنا المعاصر"، مضيفاً "أن أميركا ولدت عظيمة، وتطلعت إلى العظمة يوم كتب لها الآباء المؤسسون دستورها، وهذه العظمة الدولية ألقيت عليها بقدرة قادر، شاءت هي أم أبت، وعليها أن تتحمل المسؤوليات الجسام في النظام الدولي والسلم العالمي". يقدم الكتاب تفصيلاً موجزاً عن الرجال الذين صاغوا الدستور الأميركي واستلهموا في صياغته، أفكار ومبادئ المفكر الإنكليزي جون لوك (1632-1704). يصف المؤلف هذا الدستور بالقول "إنه دستور قابل للتكيف مع الظروف والتطورات، وقابل للتعديل نحو الأفضل، لأنه من صنع الإنسان وليس مقدساً"!
يبقى أن هناك كلمة أخيرة لا بد من ذكرها، وهي أن هذا الكتاب الذي يعالج مسار الليبرالية في الولايات المتحدة، أو أي كتاب آخر مماثل يعالج مسالة الليبرالية في بلاد الآخرين، لا بد وأن يدنينا من أنفسنا، ويحملنا على التفكر والتأمل ونقد الذات، على أمل أن يتحرر بلدنا من نظامه الطائفي وأعيانه وممثليه، ويبدأ الليبرالية الحقيقية، التي تعكس فكر الجيل الناهض وآماله ورغباته وحقه في العيش الكريم، وصولاً إلى الدولة المدنية العلمانية المرتجاة، وأن يكون نظامنا الجديد نموذجاً يُحتذى به في جوارنا العربي، لتقوم فيه أنظمة عصرية، تقوم دساتيرها على قيم الحرية والعدالة وسيادة القانون، بدلاً من أنظمة تأخذ بشعارات وعقائد عفت عليها الأزمان، ودساتير تستند في بعض وجوهها إلى المأثور الديني، وتستلهم "غيبيات" لا تقبل التطور ولا التعديل، وتبقينا، كما هي حالنا اليوم، في المقصورة الأخيرة من قطار التقدم والحداثة.