حينما فتحت عينيّ فجر السبت الماضي، كان تطبيق "الواتساب" في هاتفي يغصّ بالرسائل الآتية من لندن، على غير العادة. "غزة تحاسب كير ستارمر"، صرخت إحدى هذه الرسائل، بينما حملت أخرى تغريدات نُشرت معها صورة الشابة عائشة كوثر التي كانت "واحدة من ستة أعضاء جدد في المجلس البلدي لأولدهام انتزعوا مقاعدهم من حزب العمال"، كما أعلن المنشور.

وفي حساب كوثر في "إنستغرام"، استقبلني شعار "من النهر إلى البحر.. ستكون فلسطين حرة" البارز. هذه الكلمات سببت صداعاً لنواب أميركيين وبريطانيين لأن البعض يعتبرها دعوة مفتوحة إلى إزالة إسرائيل من الوجود. وفي صورة أخرى لديها بدا علم فلسطين خلف قبضة مضمومة وقد كتب تحته "ألا إن نصر الله قريب".

كوثر التي توحي صورها في "إنستغرام" بأنها ليبرالية من شبه الجزيرة الهندية، كان يمكن أن تكون مرشحة، لا منافسة، لحزب العمال في بلدة أولدهام التي يشكل المسلمون ربع سكانها، في شمال غربي إنكلترا. إلا أن مواقف كير ستارمر "الباردة" حيال أوضاع المسلمين البريطانيين وتأييده قتل أشقائهم في غزة، جعلاها هي وكثيرون غيرها، ينأون بأنفسهم عنه وعن حزبه.

ثمة مفاجأة أخرى كانت بانتظاري. الصهيوني ويس ستريتنغ، وزير الصحة في حكومة الظل يستجدي عفو المسلمين عن مواقف حزبه من حرب الإبادة في غزة. اعتبر هذا الشاب قبل أشهر أن على السياسيين البريطانيين أن يعطوا الأولوية "لدعم إسرائيل" من أجل استعادة الرهائن من غزة "وضمان أن شيئاً كهذا [أخذ الرهائن] لن يحدث من جديد". إلا أن هذه الدعوة المبطنة إلى استمرار الحرب على غزة التي أطلقها هو وغيره من قادة العمال، كلفتهم عدداً من مقاعد المجالس البلدية في العديد من المناطق في طول البلاد وعرضها. لذا راح النائب الذي تعرض شخصياً لكثير من الانتقادات بسبب ما قاله عن غزة، يعتذر بطريقة غير مباشرة. ويؤكد أن حزبه " قد أصغى" إلى المسلمين و"يدعو إلى وقف لإطلاق النار الآن" ويحث إسرائيل على عدم غزو رفح.

فات هذا القيادي أن يعتذر عن تقصير ستارمر في أداء دوره الرسمي. فقد كان عليه بوصفه "زعيماً لمعارضة جلالته" يتمتع بميزات مهمة مقابل ذلك، أن يُخضع الحكومة للمساءلة بشأن موقفها من الحرب على غزة. إلا أنه كان متحمساً لاستمرار القتال أكثر من ريشي سوناك، وأعطاه ضوءاً أخضر ليفعل ما يريد!

لكن ربما كان وزير الصحة في حكومة الظل يؤمن بمقولة "أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي". والأرجح أن زعيمه ستارمر يتفق معه في ذلك. الأخير شدد في مقابلة إذاعية على الهواء بُعيد هجمات "حماس" على تأييده لـ"حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها" واتخاذ ما تراه مناسباً بما فيه قطع الماء والكهرباء والطعام عن غزة! ولم يستجب لدعوات متكررة مطالبة بإنهاء القتال وحماية غزة من المجاعة. إلا أنه يدرك الآن أن حزبه سيدفع "ضريبة" غزة في هذه الانتخابات والتي تليها. ويعترف بأن "هناك أمكنة لم نحصل فيها على كل الأصوات التي أردناها" متعهداً بفعل كل ما يستطيع لمعالجة الأمر.

ستارمر وستريتنغ خائفان من خسارة أصوات المسلمين في الانتخابات العامة الوشيكة، ما يمكن أن يحرم العمال من مقاعد هم بأمسّ الحاجة إليها. وهما محقان في هذا القلق. يقول البروفسور جون كورتيس لو أن لدينا انتخابات عامة الآن لتكبد العمال خسائر غير قليلة و"هذه رسالة قوية إلى حزب العمال من هذه الانتخابات المحلية، مفادها أنه لديك مشكلة فعلاً مع بعض أنصارك المسلمين السابقين".

قد ينجو حزب العمال في بعض معاقله التاريخية حيث للمسلمين دور فعّال. مثلاً لا ينبغي له أن يقلق على مقعده النيابي في أولدهام نفسها التي لقنته درساً مؤلماً يوم الجمعة الماضي. فنائبتها منذ 2011، هي ديبي أبراهامز، عضو "أصدقاء فلسطين في حزب العمال". وفي سجلها أمثلة تستحق الثناء لجهة معارضتها للاحتلال.

إلا أنه سيتعرض لانتكاسات في مناطق عديدة، مثل بلدة روتشديل القريبة من أولدهام، والتي انتخبت قبل أسابيع السياسي المثير للجدل جورج غالاواي ممثلاً لها في مجلس العموم. وهو قال في الكلمة التقليدية التي أعقبت إعلان النتائج "كير ستارمر.. هذا من أجل غزة" في تهديد واضح.

نجح اثنان من مرشحي "حزب عمال بريطانيا"، بزعامة غالاواي، في انتزاع مقعدين في المجلس البلدي من العمال، وخطف مرشح ثالث مقعد نائب رئيس المجلس البلدي في مانشستر الكبرى من العمالي الذي كان يشغله. كما يُعتقد أن مرشحه لمنصب عمدة ويست ميدلاندز في وسط إنكلترا، أخذ أصواتاً كثيرة من حصة المنافس العمالي. وفاز مرشحون من حزبه بمقاعد بلدية قليلة في شمال البلاد.

هكذا وضعت غزة غالاواي وحزبه على خريطة السياسة الإنكليزية، بينما لم يستطع حزب "إصلاح المملكة المتحدة" المؤيد لإسرائيل من الفوز بأكثر من مقعدين في مجلس بلدي في جنوب البلد من أصل 320 مقعداً نافس عليها.

وإذا لم يكفّ حزب العمال عن انحيازه إلى إسرائيل، فقد يحتفظ غالاواي بمقعد روتشديل في الانتخابات المقبلة. وهو يتوعد بتجريد أنجيلا راينر نائبة زعيم حزب العمال من مقعدها البرلماني في بلدة قريبة من أولدهام.

يمكن أن "تحاسب" غزة حزب العمال وغيره في مناطق مختلفة. فهل يصغي ستارمر إلى البروفسور كورتيس وإلى صوت العقل؟ أم أنه لا يستطيع التعامل مع الحرب بموضوعية بسبب نفوذ جماعات الضغط التي يأتي في طليعتها "أصدقاء إسرائيل في حزب العمال"؟

يقول علي ميلاني، وهو رئيس الشبكة الإسلامية في حزب العمال، إن لدى الحزب "قدراً كبيراً من العمل الذي يجب القيام به لاستعادة ثقة الناخبين المسلمين". وأوضح أن هؤلاء يشعرون بأنهم قد "جُرحوا" و"تعرضوا للخيانة" لأن حزب العمال لم يدعُ إلى وضع حد نهائي للحرب أو لحظر بيع الأسلحة لإسرائيل. وحذر من أن "علينا أن نُظهر أننا نثّمن حياة المسلمين".

تفيد إشارات كثيرة بأن ستارمر سيحاول التودد للمسلمين ولو عن طريق بعض "الروتوش" لموقفه من الحرب على غزة. والسؤال لا يتركز على إمكان قيام ستارمر بانعطافة جديدة. فهو قضى سنوات من النضال المر لنصرة فلسطين في الماضي، قبل أن ينتقل إلى الضفة الأخرى. بل يتعلق أولاً بجدوى التغيير المحتمل بعد 6 أشهر من حرب الإبادة التي دعمها، وثانياً بما إذا كانت "عودة الوعي" ستقنع أحداً من منتقديه بجديتها، علماً أن الصدق ليس من صفاته البارزة!