الإقليم العربي لم يلتقط أنفاسه، ما إن يخرج من حرب حتى يدخل في أخرى، تلاحقه التحديات، بعض القضايا قديمة متجددة، وأخرى مستجدة، صراعات عالمية حول نظام عالمي يتشكل، القضية الفلسطينية الرقم الصعب في هذا المعادلة الجديدة. كهنة السياسة العالمية يعرفون ذلك جيداً.

الواقفون على الخطوط الخلفية لهذه الحرب سجلوا مبكراً قائمة الأولويات لمصالحهم.

ما بعد السابع من أكتوبر عام 2023، أعاد ترتيب البيادق على رقعة الشطرنج داخل الإقليم.

لم تمتثل إسرائيل لصوت العقل أو إدراك أنها لا يمكن أن تتعايش في الشرق الأوسط وهي تعادي المحيط العربي، حتى لو كانت الولايات المتحدة الأمريكية - أكبر قوة في التاريخ - ضامنة وراعية لوجودها.

إن تل أبيب تتحرك وفق مخططات وفلسفة تقوم على تجاهل القانون، وخصوصاً القانون الدولي الإنساني، لا تدرك أن القوة وحدها لا تشكل سياجاً حارساً لها، فقد حاصرتها دوائر الغضب، داخلياً وإقليمياً وعالمياً، وباتت صورتها مهزوزة، وتعاني عزلة لا يمكن إصلاحها في المدى القريب.

كلما أمعنت في القتل والتدمير والإبادة سقطت من الخيال العالمي إلى مستنقع المحاكمات الدولية سواء أمام القضاء أم الرأي العام.

كل الشواهد تقول: إن إسرائيل صارت عبئاً على داعميها، فقد استدعت من الماضي فكرة نجحت فيها مرة عام 1948، فكرة تقوم على إبادة وتهجير الشعب الفلسطيني وتحويله إلى شعب مشرد وقضية منسية، واعتقدت أن هذا المنهج قابل للتكرار في هذا العصر.

باتت كمن درس الرياضيات وأخطأ في الحساب، فلا الشعب الفلسطيني سيكرر حالته السابقة، ولا الأجيال الجديدة ستوافق على حياة اللجوء في المنافي، ولا المحيط العربي سيسمح بتكرار المشاهدة الصامتة على توسيع نطاق إسرائيل على حساب مقدرات الشعوب العربية، وبأكثر من وجودها الجغرافي الذي سمحت به ظروف دولية في وقت معين.

اللحظة مغايرة والحسابات مختلفة. فالحرب مهما طالت أوقاتها، ومهما بلغت خسائرها وضحاياها فلابد أن تتوقف، وهذه الحرب التي تداعت في السابع من أكتوبر 2023، واستمرت ثمانية أشهر ستنكسر موجاتها على صخرة الواقع، بل إنها أسست لضرورة وأهمية إقامة دولة فلسطينية متصلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية وتتمتع بعضوية كاملة في الأمم المتحدة.

رغم رفض الولايات المتحدة الأمريكية لهذه العضوية باستخدامها حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن، فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة المكونة من 193 دولة صوتت بالاغلبية بالأمس لهذه العضوية، وستضع النظام الدولي على المحك.

لقد بلغت الرواية التاريخية المأساوية ذروتها، ولم يعد هناك مفر من كتابة سطر جديد في ترتيب نظام عالمي جديد يتخلص من الإرث الظالم، الذي جرى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.

ليس لدي شك في أن الحرب سوف تنتهي، وأن ألسنة اللهب سوف تخمد، وليس لدي شك أيضاً أن الشعب الفلسطيني سيخرج من هذه التجربة المأساوية أقوى وأصلب عوداً، وسيتمسك بأرضه ودولته بأكثر مما تخيل الإسرائيليون.

ثمة سؤال يدور في ذهني: ما الذي تخيله صناع السياسة الدولية عن الإقليم العربي؟ هل اعتقدوا أنه يمكن أن يتحول إلى ميدان رماية دائم؟ أعتقد أن هذا الخيال كان جامحاً، فصمود الإقليم العربي، برغم الضربات المتلاحقة على مسارحه منذ نهاية أربعينيات القرن العشرين الماضي - يشهد أن هذا الإقليم صعب المراس، بل إنه قادر على البقاء واقفاً مهما كانت الضربات.

وهنا أنظر إليه من منظار أنه فكر في قوته الكامنة بتأسيسه جامعة الدول العربية قبل تأسيس منظمة الأمم المتحدة نفسها، الأمر الذي يؤكد إرادة هذا الإقليم على الصمود والبناء، ودخول العصر العالمي على قدم المساواة مع الأمم الأخرى.

وبكشف حساب سريع، فإن جامعة الدول العربية التي تعقد قمتها الثالثة والثلاثين 16 مايو، في العاصمة البحرينية المنامة ، إنما هي رسالة على حيوية الإقليم، وإصراره على تجاوز كل الحواجز الاستراتيجية، وأن أصوات المدافع لن تثنيه عن استكمال طريق البناء للدول الوطنية وللإقليم ككل.

إنني أرى ضوءاً في آخر النفق، وأن هذه المعركة والهجوم على غزة، بكل تفاصيله المأساوية، إنما هو نهاية حتمية لحقبة استمرت طويلاً، وأثبتت كل التجارب أنه لا يمكن أن يتحقق الاستقرار والسلام من دون وضع نهاية لهذه الحقبة الدامية الطويلة.