بعد قراءة متمعنة للميثاق الذي وقَّعت عليه في القاهرة هذا الأسبوع ثلاث مجموعات سياسية متحالفة ومتقاربة مع الحكومة السودانية، وجدت أنها قد سارت على خطى «تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم)»، وأخذت أدبياتها ومواثيقها، شطبت بعض نقاطها، ثم أعلنته ميثاقاً وسط مهرجان من التكبير والتهليل والهتافات. ولو كنتُ متنفذاً في كتلة القوى المدنية، داخل وخارج «تقدم»، لتعاملت معه موضوعياً، ودرسته وحللته، ثم رحبت بنقاط الاتفاق وناقشت نقاط الخلاف.

كيف سار التحالف الجديد - القديم على خطى «تقدم»...؟

أولاً هو انقلب على كل الادعاءات السابقة التي واجه بها تحركات القوى المدنية المعارضة للحرب، واعترف عملياً باستحالة عقد المؤتمر داخل السودان، فعقده في الخارج. كذلك من المؤكد أنه تلقى دعماً سخياً، غالباً من الدولة الشقيقة، لاستضافة مئات المؤتمرين في واحد من أفخم فنادق القاهرة. سقطت بالتالي الاتهامات والادعاءات عن «الحل من الداخل، وأنه لا بد أن يكون داخل السودان... ودمغات العمالة... إلخ». كذلك انقلب التحالف على الأحاديث السابقة عن عدم جدوى مناقشة تفاصيل ترتيبات ما بعد الحرب، وأن هذا الأمر يكشف عن شهوة السلطة، والأولوية يجب أن تكون لوقف الحرب، ثم بعد ذلك يجلس الناس لمناقشة الترتيبات الانتقالية.

على المستوى الموضوعي، حملت الوثيقة كثيراً من النقاط المتشابهة والمتفقة مع طرح القوى المدنية بشكل عام، والمطالب التي ظلت تتكرر منذ انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وما سبقه؛ فمع أن التحالف ضم حركات مسلحة أعلنت انحيازها للجيش وانضمامها له، وتشاركه الدعاية المضادة لدعوات وقف الحرب، ووصفها بالانحياز لـ«الدعم السريع»، إلا أنها في النهاية تبنَّت نفس الرؤية.

دعت الوثيقة لوقف الحرب، عبر مواصلة الحوار بين الجيش و«قوات الدعم السريع»، عبر «منبر جدة»، استناداً إلى «إعلان جدة» الموقع في مايو (أيار) 2023. وإضافة دول صديقة وشقيقة للدول الراعية للمنبر، ومعالجة أسباب اندلاع القتال، وتشكيل آلية لاستقطاب المساعدات الإنسانية.

كما طالبت الوثيقة بملاحقة ومحاكمة المتورطين في إشعال الحرب في 15 أبريل (نيسان) 2023، وتعويض مَن تضرروا منها، واللجوء إلى العدالة الانتقالية والحقيقة والمصالحة.

وأقرت أن تكون القوات المسلحة قومية احترافية، وتكون على مسافة واحدة من القوى السياسية، وألا تتدخل في الشؤون السياسية، وأن تعكس التنوع السوداني، وأن تدمج الحركات المسلحة في الجيش قبل نهاية المرحلة التأسيسية. ومنحت الوثيقة وزارة المالية حق ولاية المال العام على الشركات التابعة للقوات المسلحة عدا الصناعات الدفاعية، وأن تؤول شركات الدعم السريع للحكومة.

وأقرت الوثيقة إجراء حوار سوداني - سوداني من دون إقصاء، وتحقيق وفاق وطني في حده الأدنى، والدعوة إلى آلية دولية وإقليمية لحل الأزمة، ضمن فترة انتقالية تأسيسية، ومخاطبة جذور الأزمة عبر مؤتمر دستوري لحسم نظام وشكل الحكم والهوية، وإنشاء عقد مجتمعي ودستور دائم يستفتى فيه الشعب.

هذه بالتأكيد نقاط عامة ربما تحتاج لكثير من التفاصيل، وربما يلجأ الناس للتاريخ لمغالطة كثير من القوى الموقعة على الميثاق على أساس مواقفها السابقة، سواء من الاتفاق الإطاري أو وثائق الحركة المدنية، أو الاتهامات التي دمغت بها القوى المدنية المعارضة للحرب واستنكارها لدعوات وقف الحرب، ولن يستطيع أحد منعها من ذلك. والحقيقة أنه قبل أن يجف حبر الموقّعين على الميثاق الذي دعا إلى حكومة مدنية مهنية لا تتضمن تمثيلاً حزبياً، صرح وزير المالية ورئيس «حركة العدل والمساواة»، جبريل إبراهيم، في حوار صحافي بأن «نصيب الحركات في الحكومة سيظل محفوظاً». كما أن هذه القوى حذفت من وثائقها الإشارة لوضع المؤتمر الوطني بشكل واضح، لكنها دعت لحوار «لا يقصي أحداً»، كما تجنبت الإشارة لمصير «قوات الدعم السريع».

لكن بعد اختتام هذا الجدل، تبقى هناك حقيقة أن هناك قوى سياسية، مدنية وعسكرية، فيها تمثيل لقوى اجتماعية وقيادات أهلية، أعلنت مواقف تقترب كثيراً من المواقف التي تتبناها القوى المدنية، فيما يتعلق بوقف الحرب، وهذا يجعل الحوار معها ومناقشتها واجباً ضرورياً وملحاً. نحن الآن ندعو القوى التي تتقاتل في الميدان، ويذبح بعضها بعضاً بكل وحشية، أن تقدم المصلحة الوطنية على كل شهوة انتقام أو تشفّ، وتجلس للتحاور وتوقف هذه الحرب اللعينة، وبالتالي فإن الدعوة للحوار وتجاوز مرارات ومواقف الماضي بين القوى السياسية تصبح واجباً أعلى وأكثر أهمية والحاحاً.