اتّصل بي د.عصام خليفة المرشّح لرئاسة الجمهورية. قال: «أطرح عليك سؤالاً. قل نعم قبل معرفتك بالسؤال».

لم يُطرح عليّ سؤال مشابه وأنا محاضر جامعي في «فنون المقابلة»، ونشرت حولها كتباً مختصرها: «السؤال هو الحياة بينما الجواب هو الموت».

سكتّ لثوانٍ كالبرق تذكّرت دار المعلمين العليا جمعتنا في 1967 تاريخ «نكسة العرب»، تبعتها «جامعة السوربون» واستقالة شارل ديغول، وصولاً لإصدار«بريق الثورة في لبنان» كتابنا المتضمّن المذكرات والدراسات والمقالات التي سبقت الثورة، أو الحراك في لبنان ال2019.

قلت: نعم.. ما السؤال؟

قال: أتُدير حواراً نخبويّاً مع وزير الخارجية السابق د. إيلي سالم؟

نعم، أجبت بضمّ الإبهام والوسطى والسبابة لسياسي شجاع ومستقيم الصراط متذكّراً قوله: «ترددت كثيراً في تناول المواضيع السياسية مع أنّني أكثر من رافق الرئيس أمين الجميّل، مع الأستاذ غسان تويني». صحيح هذا لمن خبِر بين 1982-1988 سنواتٍ شديدة الوعورة والخطورة في تاريخ لبنان المعاصر، مشاركاً في طحنها وعجنها وخبزها، وبقي سالماً. يرفع الرجل الأغطية عن السنوات الممزقة والمحروقة بعدما تدفقت الأحداث، وتبعثرت المواقف في رؤوس المسؤولين، ومواقفهم، فأدمنوا الجهود والعجز، فتشعّبت المضامين والألغام والازدواجيات والمؤامرات في وطنٍ متشعّب، يبدو اليوم أكثر انفراطاً وتشعّباً، ممّا عاناه الدكتور سالم، ونُعانيه كما المحيط.

1- التقيت الوزير سالم في قصر بعبدا إثر عودتي النهائية من باريس 1984 نحو منزلٍ في قريطم. كان شقيقي راجح الخوري، رحمه الله، الكاتب في «النهار» مستشاراً في القصر، وشاركني وقائع تجمّدت بسببها العلاقات الجغرافية والسياسية، واستحالات الخروج من الحروب والنزاعات الداخلية والتعثر الاقتصادي والمالي، ووقوع اللبنانيين فوق أراجيح المصارف المتلاعبة بالعملات. ها هم اللبنانيون يمضغون أنفسهم مجدّداً بعد 40 سنة مع «تدولر» العملات إيّاها ليتقاضى النازح موزّعاً قوارير الغاز 350 دولاراً، شهرياً فيتساوى مع بروفيسور متقاعد خريج السوربون أو أكسفورد حامل شهادتي دكتوراه، وله عشرات المؤلفات والمحاضرات والدراسات، و35 سنة تخريج أجيال في الجامعة الوطنية.

2- كان القصر الرئاسي في بعبدا مهدّماً ومحاصراً يطلّون من شرفاته في بعبدا على البحر الأبيض المتوسط، و«بيروت الكبرى والضاحية الجنوبية»، مشروع الرئيس أمين الجميل، ونرى اللبنانيين، والعرب، والعالم، منذ عامين، بانتظار رئيس جمهورية يطلّ من الضاحية مع الانشغال العام بالقرار الدولي 1701، وغزّة، وفلسطين، ودول العرب، والعالم، والمنظّمات الدولية الحائرة تضرب كفّاً بكفٍّ.

3- نلتقي حول لبنان عرفناه منذ الطائف 1989 بدستور نطوف به على أبواب الطوائف والدول والمبعوثين، مع مئويّته الثانية جمهورية مقطوعة الرأس بأيدي من لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين أضاعوا لبنانهم، وسلّموه، مؤخّراً، للموفدين والسفراء والنازحين مقابل مليار يورو، على أربع سنوات. يفتح إيلي سالم مؤلّفه بالإنجليزية: In dialogue with Lebanon أي «حوار مع لبنان»، ونفتح غبار مؤلّفه الحافل بالأسرار، والأدوار، والوثائق، اللبنانية والسورية والأمريكية، وتفاصيل اللقاءات مع رونالد ريغان، وفيليب حبيب، وريتشارد مورفي، وجورج شولتز، وحافظ الأسد الذي «كان يتشاور معه شخصياً ويومياً، ويُصرّ على أن يكون في كل اللجان اللبنانية السورية الساعية إلى التنسيق السياسي والأمني بين البلدين»، إلى لقاءاته بالأخضر الإبراهيمي، ورفيق الحريري مبعوث الملك فهد بن عبد العزيز، حاملاً عناوين اتفاق الطائف، ومع هاني سلام رجل الأعمال اللبناني في لندن في ال1987 لإقناع الرئيس السوري حافظ الأسد بالقبول باتفاقية 17 مايو/ أيار 1983 بين لبنان وإسرائيل والتي كان عارضها الأسد بقوة.

4- كنت أحد مديري «مجلّة المستقبل»، رائدة الصحافة المهاجرة إلى باريس المحاذية لفندق «البرانس دو غال» الذي أقام فيه العميد ريمون إده. تدفّق نحو المقريّن بين 1976 وال 1984 تاريخ عودتنا إلى لبنان، معظم سياسيي لبنان والعرب، حيث راحت تتبلور الأفكار الأولى لاتّفاق الطائف لينتقل رفيق الحريري، رحمه الله، نحو لبنان وفي جيبه شعاره: «بيروت المدينة العريقة للمستقبل»، التي تمّ تنظيفها وهندستها ليجعلها صحيفة وإذاعة وشاشة تلفزيونية، وتياراً سياسيّاً جامعاً للبنانيين، ومعلناً وقف العد في توزيع المناصب بين المسيحيين والمسلمين، وليودّع أحلامه في «الداون تاون» الساحة التي خلعت هذا الاسم الجديد لتعود ساحة الشهداء في جمهورية تتوكّأ اليوم بحثاً عن مستقبلها الجديد. كانت «المستقبل» في باريس منتدى للسياسيين، ومطابخ للأخبار، والأدوار والأسرار التي عاشها وخبرها إيلي سالم، وغيره، مسكونين بقلق المهمّات الصعبة، بل شبه المستحيلة من تاريخ لبنان الموسوم باتفاقية 17 أيار 1983 بين لبنان وإسرائيل، وبدايات اللقاءات السريّة لاتفاق الطائف، أعني دستور 1989 الذي خبر تفاصيل تجهيزه غير المُعلنة الوزير سالم، ولو أنّها تفترق عمّا تمكّنت من توثيقه في لقاءات مع معظم النواب الذين كانوا في الطائف، كما مع الرئيس حسين الحسيني الذي ما إن سألته مرّةً عن حصر الدفاع في وسائل الإعلام عن اتفاق الطائف بالمسيحيين، أجاب: «المسيحيون تمسّكوا برئاسة الجمهورية، وقيادة الجيش، وحاكمية مصرف لبنان، والوزارات، والإدارات، وانتزعنا صلاحياتهم... وأوكلنا المهمة إلى النواب جورج سعادة، وإدمون رزق، وبطرس حرب، وألبير منصور، الذي نشر كتاباً لافتاً بعنوان: «الإنقلاب على الطائف» ليبقى لبنان أبداً هو السؤال.

*