بعد إستشهاد الإمام علي وإستيلاء معاوية بن أبي سفيان على السلطة الدينية،حول الخلافة الى ملك عضوض،أي الى دولة سياسية واضحة المعالم..فقد كان معاوية أول سياسي وجد بين العرب بالمعنى المتعارف عليه اليوم،وكان يميل الى القيادة السياسية أكثر من إنجذابه الى القيادة الدينية،فالقيادة الدينية كانت قد حسمت بخلفاء الراشدين بموافقة أهل الحل والعقد،وكان هناك الكثير من الصحابة ومن بيت النبوة أحق بالقيادة الدينية من معاوية وعلى رأسهم إبن عم الرسول الأمام علي بن أبي طالب،لذلك حينما نازع عليا معاوية إنما كان يريد أن تكون له القيادة الدينية خلفا للرسول،وكان وهو يقاتل جيش معاوية يدافع عن حق إكتسبه بالإنتساب وبموافقة أهل الحل والعقد ورجال الشورى،إضافة الى أنه كان الوحيد المتأهل فكريا ودينيا في ذلك الوقت لتلك القيادة،لكن معاوية كان يريده ملكا وإمبراطورية،ولذلك نازع عليا بالسياسة وليس بالتقوى والورع والحرص على دين الله،ولذلك إنتصر هو بأمواله ودهائه السياسي وهو داهية العرب على جيش علي الذي ضعف أمام المغريات وأموال الدنيا،فأحدث معاوية بعد فوزه بمناظرة التحكيم، سننا هي اقرب الى بناء أسس دولة حديثة في المنطقة،في مقدمة تلك السنن،مسألة ولاية العهد من بعد الخليفة والتي يتناقلها الأبناء عن الآباء الى آخر الدهر كملوك للعرب.وهذا ما حذره منه عبدالله إبن عمر حين جادل معاوية بمسألة نقل خلافة المسلمين الى إبنه يزيد حيث قال له محذرا بأنه يستن سنة ستبقى بين المسلمين الى يوم القيامة، يقصد توريث الخلافة الى الأبناء من بعد الآباء.بهذه السنة المتوارثة تحول دين الله الواحد الموحد، الى دول متفرقة تتناحرها طوائف وفرق نشأت بسبب تلك السنة وفرقت المسلمين ومزقت صفوفهم الى يومنا هذا..

إستغل معاوية ومن جاء بعده هذه السنة لحكم الشعوب والأمم غير العربية أيضا، فبدأت حروب احتلال أراضي الغير وإتسعت رقعة الدولة التي إستغلت الدين لأغراض سياسية، فتحولت خلافة الرسول الدينية الى دولة إسلامية هدفها التوسع على حساب الغير، وفي ظل تلك التحولات الجذرية ظهرت طبقة من الفقهاء والوعاظ المستفيدين من سياسة دولة معاوية وحاولوا أن يعطوا طابعا دينيا لتلك الدولة،ولتحقيق مآربهم أدخلوا آلاف الأحاديث النبوية المختلقة وأوجدوا آلاف التفاسير غير الصحيحة للقرآن بما يوطد أركان حكم الأمويين، وسار على نهجهم فيما بعد وعاظ سلاطين آل عباس..

لقد لعب هؤلاء الفقهاء من وعاظ السلاطين دورا خطيرا جدا في تشويه معالم الإسلام والهدف الحقيقي لرسالة محمد القائمة على أساس" لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".فحولوا هذا الدين السمح الى آداة للتوسع وفرض سلطة قمعية على الشعوب والأمم.لووا أعناق الآيات القرآنية ووضعوا أحاديث كاذبة ومفبركة عن الرسول الأعظم لغرض خدمة أهداف الحاكم المسمى بالخليفة.

في حديث عن النبي" أورد البخاري قوله: ( وَيْحُ عمار تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار" وحين قتل عمار على يد جند معاوية حار المسلمون وتجادلوا كيف أنهم خدعوا وقاتلوا الى صف الفئة الباغية، فلم يكن عسيرا على معاوية أن يشتري بأمواله نصيحة الفقهاء وإشارتهم له بأن يقول" إنما قتله من أخرجه من بيته" يقصد عليا وبأن فئته هي الباغية؟!.كانت المشورة حاضرة مقابل كيس من دراهم الحاكم!!.

(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون).لم يقصد الباريء جل شأنه بالخليفة الذي يستخلفه في الأرض يزيدا بن معاوية السكير العربيد، ولا القاتل المجرم الحجاج بن يوسف الثقفي، ولا أبو العباس السفاح ولا أبو جعفر الفتاك،لأن الله رحمن رحيم فكيف يستخلف كل أفاك لئيم يستغل الدين ويقول أنا نائب الله وخليفته في الأرض؟!.

 حين تولى معاوية الحكم وجعله حكما ملكيا متوارثا، إستغل الدين أبشع إستغلال للترويج لدولته، إشترى ذمم الفقهاء وقرب اليه الذليل منهم الى المال، ووسع على كل الذين أدخلوا الأكاذيب في كتب التراث، وبنى دولته على الباطل،لذلك حدث الإنشقاق بين المسلمين في إطار الصراع السياسي على السلطة، فظهر العباسيون وزاحموا دولة معاوية وثاروا عليها من أجل الإستيلاء على السلطة. وإلا كيف نفسر هذا الصراع بين فريقين لهم دين واحد وقبلة واحدة يتوجهون إليها، ونبيهم واحد وربهم واحد؟. ما الذي فرقهم حتى يشهروا السيوف بوجه بعضهم البعض؟..إذا كانت هناك إختلافات في الرأي فإن القرآن أمرنا بالشورى فلماذا لم يوسعوا هذا الباب ليكون كل أمور الحكم والسياسة شورى بينهم كما أمرهم الله..تقاتلوا حتى وقع مئات الالوف من المسلمين صرعى وضحايا لتلك الصراعات السياسية على الملك.

كل حركات التمرد والعصيان التي ظهرت خلال الفترات اللاحقة لظهور الإسلام ولحد يومنا هذا كانت من أجل التنازع على السلطة والتحدث بإسم الله.حتى حروب الردة وثورة مانعي الزكاة كانت لها إهداف سياسية،فقد كان هناك من يستغلها ليحتل موقع النبي كمسيلمة وطليحة وسجاح، ثم جاء من بعدهم الخوارج والزيدية والشيعة والقرامطة، حتى المغول والتتار حينما جاؤا لإحتلال أرض العرب إرتدى بعضهم رداء الدين الإسلامي لحكم الرعية وإخضاعهم.

كل الدول التي تفرعت عن الخلافة سواء في الأندلس أو المغرب أو في أي بقعة من بقاع الأرض، كانت بمجملها تنشأ نتيجة صراعات سياسية وتكالب على السلطة، والدين كان أبعد ما يكون عن أهداف تلك الحركات رغم أن جميعها كانت تتستر ورائه.

ملايين المسلمين قتلوا في تلك المعارك والحروب وكلهم كانوا يشهدون أن لا إله الا الله وأن محمدا رسول الله،وكانوا يصلون شطر المسجد الحرام، ويصومون رمضان لكن حكامهم لم يصوموا عن إراقة دماء المسلمين حتى تجرأ بعض حثالاتهم بقصف الكعبة المشرفة بالمنجنيق!.

إذن فالإٍسلام السياسي نشأ في عهد معاوية وعلى يده تطور، وإستمر عبر أربعة عشرة قرنا من بعده الى أن أوصلنا اليوم الى دولة داعش.