قبل حوالي 25 عاما من الآن، وبالتحديد في الربع الأخير من عام 1992م كانت هناك دولة تسمى "تشيكوسلوفاكية"، وهي اتحاد فيدرالي ما بين قوميتين "التشيك" و "السلوفاك". كانت تشيكوسلوفاكية من ضمن دول أوروبا الشرقية التي تدور في فلك الاتحاد السوفيتي السابق قبل إنهياره في العام 1989م. هذه الدولة الفيدرالية أصبحت في ذمة التاريخ منذ العام 1992م، وظهرت بدلا منها دولتان جديدتان في وسط أوروبا هما: جمهورية "التشيك" وجمهورية "سلوفاكيا".
وعلى الرغم من مرور 25 عاما على هذا الانقسام، إلا ان وجهات النظر لا تزال مختلفة حول الجهة التي ساهمت في هذا الانفصال. "التشيك" يقولون ان "السلوفاك" هم الذين اختاروا الانفصال لاعتقادهم انهما شعبان مختلفان، وان الاتحاد الذي كان قائما بينهما لحوالي 75 عاما لم يكن سوى مجرد صيغة سياسية ربطت بينهما، في حين يصر "السلوفاك" على ان "التشيك" لم يتركوا لهم خيارا آخر سوى طلب الانفصال لأنهم كانوا يتعاملون معهم بفوقية، مستغلين كون "براغ" هي المركز، وعدد السكان التشيك ضعف عدد السكان السلوفاك.
العبرة ليست في الانفصال بل في الطريقة الحضارية التي تم من خلالها الانفصال. لم تطلق رصاصة واحدة ولم يقتل مواطنا واحدا ولم يهدم بيتا واحدا، بل جرى التوقيع على العديد من الاتفاقيات التي تنظم العلاقات المستقبلية بين الدولتين الجديدتين، إضافة الى معاهدة صداقة وتعاون. لم تكن عملية الانفصال وتحديد الحدود الجغرافية وتقسيم الثروة سهلة، غير انها تمت دون تحكيم دولي، وتم فيها اعتماد مبدأ 2 الى 1 حيث كان عدد "التشيك" ضعف عدد "السلوفاك".
وقد بدأت عملية التقسيم في عام 1993م ولم تنته فعليا إلا في عام 2000م، ولم يقتصر التقسيم على الثروة والممتلكات، وعلى 2800 معاهدة كانت تربط بين "تشيكوسلوفاكيا" السابقة وبين العالم الخارجي، وانما شمل أيضا الحدود الجغرافية للدولتين حيث تم اجراء 18 تعديلا على الحدود المشتركة، كما تم تبادل أراضي من قبل الجانبين، ثم أصبح البلدين عضوين في الاتحاد الأوروبي منذ شهر مايو 2004م، وعادا لبعضهما البعض تحت سقف الاتحاد الأوروبي الأكثر ثراء. بهذه العقلانية والحنكة السياسية، ادخل "التشيك" و "السلوفاك" مصطلحا جديدا في القاموس السياسي الحديث اسمه "الطلاق السياسي المخملي".
دعونا الآن نعرج على ما كان يسمى "جمهورية يوغسلافيا الاشتراكية الاتحادية"، وما جرى لها عندما أصرً قادة "الصرب" على فرض الوحدة بالقوة على مكونات هذه الجمهورية. اشتعلت الحروب فيها ابتداء من حرب "البوسنة والهرسك" في شهر مارس عام 1991م، وانتهاء بحرب "كوسوفو" في 21 من شهر يونيو عام 1999م، والتي كانت نتيجتها تفكيك الاتحاد اليوغسلافي وتقسيمه الى جمهوريات مستقلة، هي: صربيا، كرواتيا، البوسنة، سلوفينيا، مقدونيا، الجبل الأسود، وإقليم كوسوفو الصربي تحت إدارة الأمم المتحدة. اما الدمار البشري والاقتصادي والعمراني الهائل الذي حل بما كان يطلق عليه سابقا "جمهورية يوغسلافيا" فلا يمكن تقديره، إضافة الى المستوى العالي من الكره والحقد الذي سوف تتوارثه مكونات هذه الجمهورية السابقة جيلا بعد جيل.
في العراق، اكتسبت الدعوات الطويلة الأمد للاستقلال الكردي زخما في اعقاب الهجوم الذي شنه "داعش" في شمال العراق، والذي تخلت فيه القوات العراقية التي تسيطر عليها الحكومة المركزية في بغداد عن بعض المناطق، ثم استولت عليها قوات البيشمركةوأصبحت واقعا تحت سيطرة الأكراد. وفي السابع من الشهر الماضي، أعلنت حكومة إقليم كردستان العراق ان الأحزاب الكردية اتفقت على اجراء استفتاء بشأن استقلال إقليم كردستان عن الدولة العراقية وسط معارضة شديدة من الحكومة المركزية في بغداد.
أتمنى على القادة السياسيين في العراق – عربا واكراد – ان يحكموا عقولهم، ويدرسوا بروية الحالتين التشيكوسلوفاكية واليوغسلافية من اجل المحافظة على مستقبل ومصالح الشعب العراقي بجميع مكوناته، ولا أتمنى ان أرى كردستان العراق في وضع مشابه لما يحدث حاليا في دولة جنوب السودان بعد انفصالها عن السودان في عام 2011م
التعليقات