قبل أكثر من نصف قرن، قاد الرئيس العراقي الاسبق عبدالسلام عارف حملات شعواء على حركة المقاومة الكردية، فأوصى قوات المرتزقة "الجحوش" المرافقة مع الأرتال العسكرية النظامية لمحاربة البيشمركة في جبال وهضاب كردستان، مخاطبا أياهم بان "المال والحلال والبيوت لكم والرؤوس لنا" وذلك من شدة الحقد والكراهية والعنصرية التي حملها المقبور عارف تجاه الكرد وقواته البيشمركة المحاربة، وهذه المقولة معروفة للعارفي جرت تداولها في الذاكرة الشعبية على لسانه من سنوات طويلة وهو يمثل اعلى قمة لنظام الدولة العراقية.

ونتيجة لهذا الانحدار الاخلاقي لنظام الحكم في بغداد في ذلك الوقت تجاه الكرد والحركات الوطنية، ومجابهة حقوقهم الانسانية والوطنية والقومية، ارتكبت الجحوش المرتزقة الكردية في ظل رعاية وادارة وقيادة الجيش والحكومة العراقية اعمالا فاحشة وجرائم شنيعة يندى لها جبين الانسانية، ومع تواصل استخدامهم من قبل الحكومات المركزية تراكمت وترسخت لديهم أسوء الصفات وابشع الخصال السيئة والرديئة والشبيه بالسلوكيات والممارسات الشيطانية، منها السرقة والخطف والقتل والنهب والفرهدة والابادة والقمع والاضطهاد والاستبداد والتسلط وغيرها من الافعال اللانسانية، وطبائع النهب والفرهدة والاضطهاد كانت من أكثر السلوكيات التي اتسمت بها الفصائل المرتزقة، واستمرت المهام اللاوطنية لهذه المجموعات المسلحة الى سنة الانتفاضة الشعبية واحد وتسعين.

والمعلوم قبل الانتفاضة الشعبية كانت البيشمركة مستمرة بمهامها الوطنية والقومية والقتالية في مجابهة النظام البائد، كانت كلمة "البيشمركة" تحمل معاني النبل والشهامة والانسانية والخير والتضحية والفداء والنقاء والانتماء للشعب وللأرض وللكوردايتي ولكردستان، ومن كان يحمل هذه الصفة النضالية الثورية كان يتمتع بمكانة شعبية كبيرة بين مكونات المجتمع كنموذج للانسان الحر المقاتل والمبدئي المكافح، وكان دوما مشروعا حاضرا ومتواصلا للشهادة والتضحية من احل قضية وهوية وكرامة شعبنا الكردي، وفي نفس الوقت كان هذا الانسان الثائر عدوا لدودا لدى الحكومات المركزية المتعاقبة في بغداد، ومنها نظام البعث البائد، وكان يحسب له الف حساب من قبل القوات العسكرية والأمنية والأجهزة الخاصة، وكان يعد من الد اعداء نظام صدام، ومحاكم الثورة التابعة للبعث عانت من تخمة الموت لكثرة احكام الاعدامات التي كانت تصدرها بحق المسجونين من البيشمركة واعضاء التنظيمات الداخلية.

ولهذا تحول اسم وكلمة "البيشمركة" الى حقيقة شامخة وحالة رمزية شديدة الالتصاق بالروحية الوطنية، وكم من أسماء كثيرة للأطفال والشباب والصغار والكبار في المجتمع الكردي تعود اسباب تسميتها الى أسماء لمعت في سماء نضال "البيشمركة" لشهادات وبطولات ومواقف قتالية باسلة وشجاعة شهدتها سجلات الكفاح المتواصل من بداية ظهور الحركة التحررية الكردية بعد الحرب العالمية الاولى والى يوم الانتفاضة الشعبية للكرد مع العراقيين ضد النظام البائد غداة غزو الكويت، والتي تكللت بالنجاح في كردستان بحكم الدفاع المستميت والبطولات الباسلة للبيشمركة ولافراد الشعب.

ولكن في ظل أجواء القمع والاستبداد التي كانت سائدة في سنوات حكم صدام وخاصة خلال سنوات الحرب الايرانية العراقية فان عديد قوات "البيشمركة" المقاتلة ضد النظام لم يكن يصل الى خمسة الاف مقاتل في الجبال، وبالمقابل كان نظام صدام قد سخر قوات مرتزقة عشائرية وغير عشائرية من اكراد المنطقة باسم "الافواج الخفيفة" وتسمية "افواج الدفاع الوطني" لمحاربة البيشمركة في الجبال والهضاب والسهول، وكان انتشارها مكثفا ومنتشرا في اغلب مناطق ما كان يعرف بالامس باسم "منطقة كردستان للحكم الذاتي"، وكان عديد الفوات المرتزقة الكردية الحكومية تقريبا بحدود نصف مليون مسلح والمعروف لدى الكرد بـ الـ "جاش" ويعني "الجحش" للفرد والجحوش" للجمع، ورئيس الفوج كان بعنوان مستشار، وكان لبسهم واكسسواراتهم نفس الزي الكردي العادي كل حسب المنطقة والمحافظة.

ولكن الغريب في الأمر وفي سنوات تلك الفترة وبالرغم من العدد الهائل للافواج المرتزقة الكردية وسيطرتهم على المدن والاقضية والنواحي والصبات فان ثقافة وتقاليد البيشمركة هي التي كانت سائدة داخل شرائح ومكونات المجتمع الكردي، وكانت متسمة بالروحية الوطنية الأصيلة، بينما تقاليد وثقافة المرتزقة "الجحوش" كانت محصورة فقط بالأوساط المنتسبة لتلك القوات والافراد المنخرطين في الافواج، وكانت ظاهرة الثراء الفاحش لدى مستشاري الاقواج وابنائهم وخدمهم أحد المظاهر الكبيرة التي تميزت بها تلك الفترة الماضية نتيجة السرقة والنهب والفرهدة، واضافة الى ذلك اختلاس الأموال والنثريات والمخصصات ورواتب منتسبي الافواج، وكذلك من خلال بيع العتاد والاسلحة الخفيفة وعلى قدم وساق وتحت أنظار الحكومة والجيش والاجهزة الأمنية.

وكانت هنالك ايضا قوات مرتزقة "جحوش" موزعة على شكل مجموعات ومفارز خاصة مختصة بارتكاب جرائم بشعة ضد الكرد الابرياء بالتعاون والتنسيق وبأمرة الاجهزة الامنية الخاصة لنظام البعث البائد، والحكومة كانت تغض طرف عينها عن ممارسات تلك القوات والمفارز لحاجتها اليهم واستخدامهم في مهمات أمنية قذرة.

ولكن المؤلم ومباشرة بعد الانتفاضة الشعبية، وبعد سيطرة الحزبين الرئيسيين الديمقراطي الكردستاني برئاسة مسعود البرزاني والاتحاد الوطني برئاسة جلال طالباني على مقاليد امور سياسيا وعسكريا وامنيا في الاقليم، والاخذ بزمام حكم الادارة على اساس المناصفة، إنضمت أفراد تلك القوى المسلحة المرتزقة "الجحوش" والتي قدرت اعدادها بحدود نصف مليون مرتزق الى القوات المسلحة التابعة الحزبين الحاكمين، وقيدوا تحت عنوان البيشمركة، فتحولت تلك القوات الى قوة عسكرية كبيرة ضمن القوات التابعة لكل حزب حاكم، وتحول كل مستشار لأفواج الجحوش وآمر للمفارز الخاصة وابنائهم وخدمهم وحشمهم الى قادة عسكريين في قوات البيشمركة، ومسؤولين في الاجهزة الامنية والادارية والحكومية التابعة الى كل من الحزبين الرئيسيين، وانيطت بالبعض منهم مواقع ومناصب كبيرة على مستوى الحكومة والبرلمان والحزب، وعلى سبيل المثال كان احد اعضاء مجلس النواب من الكرد في بغداد الدورة الثانية كان مستشارا لاحدى الافواج الخفيفة في زمن صدام.

والخلل الاستراتيجي الكبير الذي حصل بسنوات قليلة نتيجة انضمام العدد الكبير من "الجحوش" المرتزقة الى الحزبين، هي محو التقاليد المميزة والثقافة الوطنية والخواص والسمات الانسانية النبيلة لبيشمركة ما قبل الانتفاضة، وترسخت بدلا عنها صفات وثقافة وتقاليد "الجحوش" مثل النهب والاختلاس وسرقة الاموال والثروات والموارد والممتلكات العامة من قبل الرؤساء والوزراء والمسؤولين في سلطة وحكومة الاقليم، وطوال سنوات الحكم الكردي ابتداءا من سنة الانتفاضة والى يومنا هذا، اي طوال ربع قرن من الزمن الرديء وحكام الاقليم يحكمون بتقاليد وثقافات المرتزقة والشعب يأن تحت وطأة الاستبداد والظلم والنهب والفرهدة والعدالة المسحوقة.

وهكذا وقع مكونات السلطة وكابينات الحكومات المتلاحقة للاقليم في خندق عميق ومليء بالفساد والنهب والمافيات، وطوال عقدين ونصف من نظام حكم "الجحوش" القديمة الجديدة تحول الحكم الى حاكمية مطلقة ونظام خال من التقالبد الوطنية والانسانية والمهنية، وخصال المسؤولين الكبار بمستوى الرئاسات والقيادات والوزراء والمسؤولين تجففت تماما وتخلت عن الانتماء والتضحية والفداء والاخلاق والمسؤولية وعلى صعيد الادارات الحكومية والاحزاب والعوائل الحاكمة، ونتيجة لهذا الواقع المرير أولدت هذه السلطة المارقة ولادات مشوهة وممسوخة للعصابات والمافيات والمجموعات القارونية والفرعونية تتحكم بكل مفاصل الحياة بالاقليم، وتحولت الى كائنات ممسوخة لا تولد من رحمها الى اسباه للشياطين لا تؤمن الا بفرهدة قوت وموارد واموال وثروات وممتلكات الشعب والنهب المتواصل لحاضر ومستقبل اقليم كردستان.

وهكذا نجد "جحوش" الامس تسيطر على الاقليم بسطوتها ونفوذها وفسادها ومافياتها وتقاليدها ونفوذها ومكوناتها ومجموعاتها الحاكمة، بينما نجد الـ "بيشمركة" التي كانت متميزة باخلاقياتها وثقافتها وتقاليدها الانسانية قد تلاشت قوتها ومركزها ونفوذها، وباتت تقابل بالاشمئزاز والنفور من قبل الحكومة وسلطات الاقليم والاحزاب الحاكمة والمشاركة بالحكم والعوائل الحاكمة، والاستقبال البارد من قبل رئاسة الاقليم للممثلين عن بيشمركة المحاربين القدامى قبل شهور وعدم تلبية مطالبهم من قبل الحكومة دليل وبرهان ساطع على حصول انقلاب فاحش ومارق من قبل أخلاقيات "الجحوش" الحاكمة بالاقليم على أخلاقيات البيشمركة التي ذبلت واندثرت ولم تبقى منها سوى غبار تجتر بها ذاكرة الأزمان الجميلة، وكم من أسم بالمئات والالوف وكم من قاتل بالعشرات والمئات للبيشمركة الابطال من أمثال الشهيد مام ريشة مدونة أسمائهم في قوائم شهداء الحركة التحررية الكردية وهم بالأصل من الجحوش والمستشارين وامراء المفارز ولهم مزايا وامتيازات اعلى بكثير لما لشهداء البيشمركة ولعوائلهم الكريمة.

وهكذا نجد هذه الغلبة الفاحشة للـ "جحوش" المرتزقة على تقاليد وثقافة البيشمركة الاصيلة متحكمة بمفاصل الحكم بالاقليم، وبسطوتها أولدت سلطة وحكومات فاسدة ومارقة وناهبة للثروات وموارد الناس، وأقل ما يمكن ان نعبر عنها انها تراجع معيب ومهين ومذل للتاريخ الكردي وللأصالة الوطنية وللكرامة الكوردايتية المجروحة، وسحق للمثل والمفاهيم والقيم الاعتبارية والانسانية ومن خلال هذا السرد الموضوعي لما حصل من انقلاب وتشويه وتحريف ومسخ للهوية الوطنية وللثقافة الانسانية والتقاليد الكوردايتية للمجتمع الكردي داخل الاقليم، وتحولها الى مكونات جحوشية لدى الاغلبية الحاكمة التي تتحكم باقليم كردستان وهي بالأصل من اصناف مستشاري الافواج ومسؤولي المفارز القديمة، هكذا هو الواقع المؤلم والمرير والشعب مخدوع ومقهور ومظلوم من رأسه الى أحمص قدميه ببراثن واستبداد سلطة مرتزقة فاحشة، وافراد البيشمركة وهم الأغلبية المناضلة لا حول ولا قوة لها تناضل وتقاتل بأمانة وشرف في ساحات القتال دفاعا عن الكرد والاقليم وعن السلطة المارقة، والمؤسف حقا ان الظروف دفعت بهم اليوم الى خدمة سلطة حاكمة مستبدة مارقة استمدت اخلاقياتها وتقاليدها من ثقافة الجحوش المرتزقة.

ولهذا حان الوقت لرفض هذه السلطة المتشبثة بجحوش الامس ومرتزقة النظام البائد، وحانت الفرصة لابداء الموقف الفردي والجماعي لرفض تقاليدها وثقافاتها وهويتها اللاوطنية واللاانسانية المفروضة منذ ربع قرن على هوية ووجود شعب كردستان، والموقف يتطلب ضرورات عاجلة للوقوف بوجه السلطة المارقة خاصة وانها بدأت تسلك سيناريوهات خطيرة للعب بمصير شعبنا الكردي لصالح مصالحها الشخصية والعائلية والحزبية، ولصالح بعض الدول الاقليمية، وهي لعب سياسية غير مأمونة النتائج لأنها قد تأتي بعواقب لا يحمد عقباها على حاضر ومستقبل اقليم الكردستان المرهون واقعه السياسي بيد حكام جائرين وطغمة باغية من الجحوش المارقة التي لا تحمل مثقال ذرة من الانسانية ولا تؤمن بقدر مثقال ذرة من الايمان برب العالمين، "قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ"، والله من وراء القصد.
(*) كاتب صحفي