الثورة السورية التي أحدثت منعطفا حاداً في وعي السوريين جميعاً، وكانت نقطة تحول لعموم سكان سوريا في موقفهم من عائلة الأسد التي تحكم سوريا منذ ما يقرب من نصف قرن، يبدو أنها لم تفعل الشيء ذاته في وعي المثقفين والكتاب السوريين!

فما فعله جلّ أو عموم المثقفين هو مجرد انتقال إلى صفوف الثورة السورية، بمقارباتهم القديمة وأدواتهم نفسها، ومواقفهم نفسها، لم يجترحوا أي مساءلة لحقبة الأسد المظلمة في جانبها الثقافي، بل انتقلت نفس الشلل الثقافية بنفس الأشخاص بنفس العداوات وبنفس الحروب وبنفس التنافس على اختلاق الأوهام في تصدر المشهد دون منتج حقيقي.

وفي إطار "الوعي الجديد" الذي أفرزته الثورة، حاولت في مقال سابق، أن أبدأ فحص التاريخ الثقافي لسوريا في ظل الأسد، منطلقا من مقاربة حالة مشخصة لاسم ثقافي -سعدالله ونوس- مكرس في المشهد السوري الراهن ومشهد حقبة الأسد أيضاً، وانطلقت في مقاربة الحالة من نقد ذاتي أولاً، ثم توسعت في النظر في الأليات التي كرس بها النظام كاتبا مسرحياً واسماً فاعلاً في الحياة الثقافية السوية في النصف قرن الأخير. 

وفي تشخيص الأليات التي روج وكرس بها النظام اسم سعدالله ونوس، توقفت عند الدور الذي لعبه مثقفو اليسار الممانع؛ القومي والشيوعي والماركسي، وحتى القومي الماركسي، في ترويج خيارات النظام الثقافية. وبسبب الثورة السورية التي غربلت العالم وكشفت حقائقا ناصعة لأن ثمنها دم وتهجير وتشريد وتجويع، أصبح هؤلاء واضحين في علاقتهم مع النظام التي أشرت إليها. 

لكن الجوقة نفسها، التي أصبحت قسمين: قسم ما زال مع النظام وقسم انتقل إلى الثورة تحت صيغة "المعارضة الموالية"، توحدت في السعار المحموم ضد رأيي الذي طرحته في مقالي السابق "هل كان سعدالله ونوس صنيعة لنظام الأسد" الذي لا يخرج عن كونه رأي قاله كاتب في كاتب أخر بأسانيد لا لبس فيها تحيل إلى مسيرة حياة الكاتب موضع النقاش وعلاقته بنظام عائلة الأسد أي انها لا يمكن دحضها. 

ولأن تاريخ سوريا الثقافي يجب أن يؤخذ بجدية، ويجب أن لا يظل حقلا للتزوير والسفاهة؛قمت بالرد على كل الأسئلة المعتبرة التي سيقت على هامش حفلة الردح واللطميات التي أقاموها تفجعا على النيل من أحد الرموز الثقافية لـ "القائد الرمز" وسوريته. 

ففي هذا المقال البحثي المعنون "عندما يمجد إرهابي دولي كاتبا مسرحياً | في السياقات الثقافية لتكريس نظام الأسد لسعدالله ونوس مسرحاً واسماً"أتابع التقصي والتحقق من الفرضية الشائعة التي يرددها المثقفون والقراء السوريون بأن الكاتب المسرحي السوري ونوس، والذي مرّ أكثر من عقدين على وفاته، كان معارضا لنظام الأسد.

وأبرهن على أنه لم يكن معارضاً قط لنظام الأسد، بل كان الكاتب الأكثر تدليلا من النظام، وحصل على منافع وامتيازات لم يحصل عليه كاتب سوري أخر بما فيهم الكتاب المحسوبين بشكل مباشر على النظام. 

في القسم الأول من البحث أتناول علاقة المسرحي الراحل بالقضية الفلسطينية التي كانت شأناً داخليا ثقافيا سورياً، وأرى أن ونوس قارب هذه القضية بشكل ينسجم مع رؤية النظام، وهو لم ينتقد متاجرة النظام بهذه القضية. حيث حمّل المسرحي كل مشاكل المنطقة ومشاكله الشخصية لإسرائيل دون أي ذكرٍ لنظام الأسد. 

وفي القسم الثاني أتناول المسألة الطائفية في سوريا في جانبها الثقافي، حيث أنطلق من فرضية أن النظام الذي استثمر في، واستخدم الورقة الطائفية، لتثبيت سلطته، استخدمها أيضا في الحقل الثقافي، وأجادل بأن "التصعيد على أسس طائفية" كان شائعا في الأوساط الثقافية السورية، وقد أفاد ونوس ذلك. وأرى أن فتح الدفاتر الثقافية للحقبة المظلمة لحكم عائلة الأسد سيفضي بالضرورة لتناول فاعلية الورقة الطائفية في قطاع الثقافة أيضا، لكني أؤكد على تناولها بحذر، مفرقاً بين البحث في المسألة الطائفية مهما كانت نتائج هذا البحث مؤلمة والترويج للطائفية.

في القسم الثالث أشير للأليات التي أفاد منها النظام من مسرح ونوس كمسرح تثقيفي يلقن الأجيال الممانعة، والتي أفاد منها ونوس كذلك بجعله خطاً أحمر ممنوع نقده، فإضافة لاستعراض المناصب التي تقلدها ونوس في ظل نظام الأسد والتي تركت لها الهامش لأني تناولت معظمها في المقال السابق؛ فقد أشرت لتقديم مسرحيات ونوس على كافة المسارح العامة في سوريا، بما فيها مسارح طلائع البعث والشبيبة والمسرح الجامعي وحتى مسرح نقابات العمال واعتبرت ذلك دلالة واضحة على انسجام ما يقدمه مسرح ونوس مع المتطلبات الأيديولوجية لنظام شمولي يرى في المسرح أداة تثقيفة.

في القسم الرابع، يتناول المقال تكريم نظام الأسد لونوس بعد رحيله بإقامة مهرجانين ثقافيا لتخليد ذكراه، أحدهما -والذي يجري بإشراف عائلته-استضاف أنيس النقاش المدان بقضية إرهابية دولية تتعلق بمحاولة اغتيال رئيس الوزراء الإيراني الأسبق شابور بختيار. إضافة للنائب اللبنانيالسابق المقرب من حزب الله وئام وهاب. 

وفي القسم الأخير أعيد البحث في قضية استقالة سعدالله ونوس من اتحاد الكتاب العرب الذراع الثقافية لنظام الأسد، احتاجا على طرد أدونيس بتهمة التطبيع، التي نجم عنها نزاع مالي بين ورثة المسرحي الراحل والاتحاد الذي كان نوس أحد مؤسسيه على حد تعبير الكاتب، تلك الاستقالة التي حورها صحفي سوري بدوافع عائلية من قضية تتعلق بتعويضات مالية لقضية ثقافية. كما أشرت باختصار لدلالات فصل أدونيس من اتحاد الكتاب العرب الذي ما كان يجرؤ على هذه الخطوة دون توجيه من المخابرات السورية، مؤكدا على إفادة النظام من إظهار الشاعر أدونيس معارضا. 

——

*نظرا لصعوبة نشر البحث على أجزاء، بسبب طبيعته المترابطة، حرصت على نشره على شكل ملزمة بحثية كملف بي دي إف حيث يسهل قراءته وتحميله من هنا