جنيف: بعد قصف جوي إستمر اسبوعا كاملا، يتعرض قطاع غزة منذ السبت 3 يناير الجاري إلى هجوم بري إسرائيلي شامل خلف العشرات من القتلى والجرحى، في الوقت الذي يعاني فيه السكان المدنيون في القطاع من نقص حاد في المياه والغذاء ومصادر الطاقة.
وتتفاقم هذه الأوضاع اكثر مع إشتداد القبضة العسكرية الإسرائيلية على القطاع، الذي قسم غزة إلى شطرين، ومنع التواصل بين شمالها وجنوبها.
ولفهم الأسباب التي أوصلت المنطقة إلى هذا الوضع، والمواقف السلبية للقوى الدولية مما يجري هناك، نقدم الحوار التالي مع الدكتور ريكاردو بوكوّ، أحد الخبراء السويسريين المختصين في قضايا الشرق الأوسط والأستاذ بالمعهد العالي لدراسات التنمية بجنيف:
تحدد اتفاقيات جنيف الأربعة قواعد لحماية المدنيين وممتلكاتهم خلال النزاعات المسلحة، بحسب رأيكم، هل أوفت إسرائيل بالتزاماتها الدولية تجاه المدنيين الفلسطينيين في غزة؟
لا أبدا، دولة الاحتلال الإسرائيلية لم تحترم يوما أحكام اتفاقيات جنيف، وهذا ما أكدته أخيرا بيانات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، والأمر لا يتعلق فقط بالنزاع الحالي في قطاع غزة، بل كان الأمر كذلك منذ سنة 1967. الموقف الإسرائيلي كان يتلخص دائما في القول بأنه ليس سلطة احتلال، وأن الخلاف يدور حول أراض متنازع عليها. لكن رغم النفي الإسرائيلي، المجتمع الدولي والقانون الدولي ينظران إلى إسرائيل كدولة محتلة.
على الرغم من أن ضحايا القصف الإسرائيلي للمدنيين بغزة يعدون بالمئات، نلاحظ غض طرف شبه كامل من طرف المجتمع الدولي، كيف تفسرون هذا الصمت؟
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حكم الموقف الدولي منطقان مختلفان: منطق عقلاني يُعلي من شأن القانون الدولي وهو الذي قاد مثلا إلى إنشاء المحكمة الجنائية الدولية في بداية التسعينات، وموقف برغماتي يطلق عليه المحللون quot;الواقعية السياسيةquot;، أي المواقف التي تحكمها المصالح الوطنية المحلية. ومنذ وصول إدارة بوش إلى الحكم في الولايات المتحدة اعتمدت هذا المنطق الثاني، وأول أمر قامت به رفضها المصادقة على المعاهدة المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية، على الرغم من توقيع إدارة كلينتون عليها، وبدلا من ذلك، سعت الولايات المتحدة إلى إبرام عدة اتفاقيات ثنائية تسمح بمنح الحصانة إلى الجنود الأميركيين، فلا يحاكمون خارج بلدهم مهما ارتكبوا من جرائم.
هذان المنطقان، منطق القانون الدولي ومنطق المصلحة الوطنية غالبا ما يكونان في تعارض، وسلبية الموقف الدولي مما يجري في الشرق الأوسط حاليا يجد تفسيره في هذا المستوى.
هل هناك أسباب سياسية أخرى لتفسير سلبية المجتمع الدولي؟
هذه السلبية يمكن تفسيرها أيضا بعدم رغبة البلدان الغربية والأنظمة العربية الموالية لها في رؤية نظام إسلامي مستقر بشكل دائم في الأراضي الفلسطينية، وهذا على الرغم بان حماس وصلت إلى السلطة عبر عملية ديمقراطية نزيهة بشهادة المجتمع الدولي. وكان منذ البداية هناك سعي مقصود إلى تشويه مواقف حماس، وأشير هنا إلى موقفيْن بعينهما: منذ فوزها بانتخابات 2006 دعت حماس إلى اعتراف متبادل مع الدولة العبرية، وطالبت مقابل إعترافها بوجود إسرائيل، اعتراف هذه الأخيرة بدولة فلسطينية مستقلة وبحدود معترف بها دوليا وليس بمجرد quot;سلطة فلسطينيةquot; كما تفعل الآن، لكن اللجنة الرباعية تجاهلت نداءات حماس. والأمر الثاني، تواطؤ الإعلام الدولي مع العديد من القوى الدولية في تشويه تجربة حماس في الحكم، ووقع تقديم حماس والجهاد الإسلامي quot;كأصوليين متزمّتينquot;، وكنظام جعل من شعبه رهينة، لكن الحقيقة غير ذلك، إذ داخل قطاع غزة تنشط إلى اليوم العديد من الفصائل والحركات السياسية ، والجميع يعبّر عن مواقفه علانية سواء في ما يخص الحياة السياسية الداخلية أو ما يتعلق بأساليب النضال من أجل دحر الاحتلال.
هل يمكن للمواجهات الحالية في غزة أن تؤثر على الإستقرار الهش في البلدان المجاورة، وماذا سيكون الوضع على الجبهة الإسرائيلية اللبنانية في حالة استمرار الحرب في قطاع غزة؟
الهجوم الإسرائيلي في غزة قد يشكل في النهاية تهديدا حقيقيا للأنظمة في منطقة الشرق الأوسط. فالمعلوم أن النزاع العربي الإسرائيلي شكل دائما خطرا مزدوجا لتلك الأنظمة: من ناحية، تلاعبت الأنظمة العربية، بمحوريها المعتدل أو المتشدد، ووظفت القضية الفلسطينية من أجل اكتساب شرعية مفقودة، والتغطية على اغتصابها للسلطة، لكن من ناحية ثانية تدرك هذه الأخيرة جيدا أن حل القضية الفلسطينية وقيام دولة منتخبة ديمقراطيا في quot;فلسطين المستقلةquot; من شأنه أن يمثل تحديا لها.
أما بالنسبة للبنان، فالمسألة أكثر خطورة. فبعد اغتيال الحريري، أصبحت مؤسسة الدولة رخوة وهشة، وفقدت الدولة ما بقي لها من سيطرة على حزب الله، وزادت شرعية هذا الأخير بعد حرب 2006 ، فضلا عن ان إستراتيجية حزب الله لا تتقاطع مع إستراتيجية الدولة اللبنانية، وتتوافق خططه مع محور سوريا وإيران أكثر من اتفاقها مع رؤية شركائه في الوطن. وإذا علمنا ان سوريا تتقوى بورقتيْ حماس وحزب الله في مفاوضاتها مع إسرائيل من أجل اتفاقية سلام محتملة، فبالإمكان إذن ان يؤدي الهجوم على غزة إلى تدهور الوضع على جبهة حزب الله وإسرائيل.
سويسرا، بوصفها الدولة الراعية لإتفاقيات جنيف، هل بذلت جهودا بما فيه الكفاية لحمل الأطراف المتنازعة على تحييد المدنيين واحترام قواعد القانون الإنساني؟
سويسرا ليست قوة سياسية أو عسكرية مؤثرة على الساحة الدولية، وليس بإمكانها بالتالي أن تقوم بدور متقدم كالولايات المتحدة، وروسيا، والإتحاد الأوروبي. تكتفي سويسرا بصفتها راعية لإتفاقيات جنيف بتذكير الأطراف المتنازعة بضرورة الوفاء بإلتزاماتها في حماية المدنيين وممتلكاتهم، وأيضا البحث عن فرص للقيام بوساطات حميدة متى ما سمحت الظروف الدولية بذلك.
وفعلا، حققت الدبلوماسية السويسرية في عهد ميشلين كالمي- ري العديد من الإنجازات والنجاحات على المستوى السياسي وعلى مستوى إيصال المساعدات الإنسانية خلال الحصار الذي فرض على قطاع غزة على إثر وصول حماس إلى السلطة. وكذلك أبقت سويسرا على تواصلها مع حكومة حماس وهو ما عرّضها لإنتقادات من طرف الحكومات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، كما واجهت وزارة الخارجية انتقادات من أطراف داخلية ذات حضور قوي على مستوى البرلمان. لكن هذا الموقف الشجاع تبنته لاحقا كل من النرويج وفرنسا.
هذا الموقف المتميّز للدبلوماسية السويسرية، ألا يسمح لها بالقيام بدور الوساطة اليوم بين الطرفين المتحاربيْن؟
لكي تنجح أي وساطة، لابد أن يقبل بها الطرفان المتنازعان، وفي حالة النزاع الذي تشير إليه يبقى دور سويسرا محدودا جدا، لأن سويسرا ليس بمقدورها أن تلعب دور الضامن الرئيسي لأي اتفاقيات سلام، بما يتطلبه ذلك من انخراط سياسي وإقتصادي، ولا يمكن أن يتجاوز دورها دور الوساطة الحميدة. جميع الاطراف نظرت بإستمرار إلى الولايات المتحدة على أنها الضامن الرئيسي لعملية السلام في الشرق الأوسط، ولا يمكن أن يعوضها في ذلك حتى الإتحاد الأوروبي أو روسيا.
ما المخرج الممكن بحسب نظركم من النزاع القائم اليوم؟
هذه الأزمة الحالية يمكن ان تطول لعدة أسابيع قادمة، وستكون بلاشك صعبة ومؤلمة، لكن هناك العديد من المتغيرات قد تلعب لصالح انتهائها أو إستمرارها: أولا حجم الخسائر التي يمكن ان يتكبدها الجيش الإسرائيلي والتأثير المباشر لذلك على رد فعل الرأي العام الإسرائيلي عشية الإنتخابات المرتقبة بداية شهر فيفري القادم، ومن الأكيد أن الرأي العام في إسرائيل لن يتحمل أي خسارة مؤلمة تلحق بالجنود.
من ناحية أخرى إستمرار الهجوم الإسرائيلي او توقفه يعود أيضا لحجم الضغوط التي ستسلط في الأيام القادمة على إسرائيل، خاصة من الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وكما هو معلوم تشهد أميركا فراغا سياسيا من المنتظر أن يستمر غلى حين تولي الإدارة الجديدة دواليب السلطة يوم 20كانون الثانيالجاري، ومن المرجّح جدا أن تستمر الأزمة إلى ذلك الحين.
عبد الحفيظ العبدلي
التعليقات