واشنطن: شهدت الولايات المتحدة خلال الأيام القليلة الماضية حدثين، إعتبرهما كثيرون ـ وعلى رأسهم الرئيس الأميركي باراك أوباما ـ بمثابة بداية النهاية لفترة من أكثر الفترات ألمًا وظلامًا في التاريخ الأميركي. فحوى الحدثين تدور حول مراجعة مجموعة من السياسات التي اعتمدت عليها الولايات المتحدة في عهد الإدارة الأميركية السابقة في التعامل مع الحرب على الإرهاب، خاصة تلك المرتبطة بالتحقيق مع المعتقلين في تهم متعلقة بالإرهاب.

أولاً: قامت الإدارة الأميركية بالإعلان عن عدد من المذكرات التي كانت قد أصدرتها وزارة العدل الأميركية في الفترة من 2002 إلى 2005 توضح بالتفصيل أساليب التحقيق التي استخدمها المحققون في وكالة المخابرات المركزية الأميركية مع الإرهابيين، والذين تصفهم التقارير بالخطرين وذوي قيمة كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة. وتتضمن هذه المذكرات تفاصيل كثيرة عن أساليب التحقيق التي وصفها الرئيس بالتعذيب، وكان من بين هذه الأساليب الصفع وتجريد المعتقلين من ملابسهم، ووضعهم تحت كثيرٍ من الضغوط، وأسلوب الإيهام بالغرق، فضلاً عن بعض الأساليب الأخرى شديدة الوطأة والتي اعتمدت على تخويف المعتقلين والضغط عليها.

وبعد هذا القرار الذي أصدره الرئيس باراك أوباما بأيام قليلة أصدرت اللجنة العسكرية بمجلس الشيوخ تقريرًا عن الأساليب الوحشية التي استخدمها أفراد القوات المسلحة الأميركية مع المعتقلين والسجناء الذين احتجزتهم، ويقوم التقرير على أن الإدارة الأميركية السابقة برئاسة جورج دبليو بوش بدأت في استخدام هذه الأساليب الوحشية بعد شهرين فقط من وقوع إحداث الحادي عشر من سبتمبر. وربط التقرير هذه الأساليب بالانتهاكات الأمريكية التي حدثت في السجون العراقية خاصة سجن أبي غريب، وأيضًا بما حدث في معتقل جوانتانامو، بالإضافة إلى السجون الأفغانية.

أوهام الشفافية والانفتاح

ومن جانبه بث برنامج All Things Considered ـ الذي يبث على شبكة NPR ـ تقريرًا أعده أري شابيرو ، أشار فيه أن الرئيس الأميركي أكد أن المسئولين في وزارة العدل الذين سمحوا باستخدام هذه الأساليب في التحقيق لن يكونوا بعيدين عن المحاسبة واتخاذ الإجراءات القانونية حيالهم. ولكن في وقت آخر ـ كما يقول التقرير ـ صرح كبير موظفي البيت الأبيض رام إيمانويل أن الرئيس باراك أوباما لا يرغب في أن تتم مقاضاة هؤلاء الموظفين الذي أعطوا الضوء الأخضر لوقوع مثل هذه الممارسات، التي وصفها أوباما بأنها quot;تعذيب.quot;

وعلى الصعيد ذاته ذكر التقرير أنه منذ مجيء أوباما إلى السلطة وهو يتعهد بعصر جديد من الانفتاح الحكومي والشفافية، حيث وعد بحكومة مسئولة تتحمل مسئولية كافة الأفعال والسياسات التي تقدمها وتعمل على تنفيذها. واعتبر أوباما أن السبيل الوحيد لمثل هذا الأمر هو تمكين مفهوم الشفافية ليكون الموجه الأساسي لجميع الأعمال الحكومية، ولكن التقرير أكد أن كثيرًا من المحللين والخبراء على الساحة السياسية الأميركية يرون أن الرئيس الأميركي لم يفعل كثيرًا ليضع وعوده موضع التنفيذ خاصةً على صعيد الأعمال المتعلقة بالأمن القومي الأميركي.

وفي سياق تدليله على هذا الأمر لفت شابيرو الانتباه إلى أن موقف الإدارة الأميركية الحالية في اثنين من أهم قضايا الأمن القومي في الفترة الأخيرة لم يختلف كثيرًا عن موقف إدارة الرئيس بوش السابقة، حيث طلبت وزارة العدل من القضاة المسئولين عن هذه القضية حفظ هذه القضايا، وتجميد أي إجراءات قانونية بصددها، محتجة في هذا الأمر بأن استمرار نظر هذه القضايا أمام القضاء سوف يُعرض كثيرًا من أسرار الأمن القومي للخطر من خلال جعلها أمورًا علانية للجميع. واعتبر التقرير أن هذه الاتجاهات في التفكير والإدارة تعبر عن الاتجاهات الإمبريالية ذاتها التي مثلها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش.

كما ساق التقرير مؤشرًا آخر على هذه الاتجاهات الإمبريالية التي تخالف ما أعلن عنه أوباما بشأن الشفافية بعد تنصيبه رئيسًا للولايات المتحدة، حيث أشار التقرير إلى أنه كان هناك مشروع قرار قدم إلى الكونغرس في العام الماضي، يهدف إلى تقييد سلطة الإدارة الأميركية في إيقاف نظر بعض القضايا ـ خاصة تلك المتعلقة بالأمن القومي ـ هذا المشروع كان أحد الداعمين الأساسيين له جو بايدن نائب الرئيس الحالي ، حينما كان عضوًا في مجلس الشيوخ قبل أن يتولى منصبه، ولكن الآن لم تعلن الإدارة الأميركية الجديدة عن موقفها من دعم مثل هذا المشروع في الوقت الحالي من عدمه.

جدل في الساحة السياسية الأميركية

ومن ناحية أخرى رصد التقرير ردود الأفعال داخل الساحة السياسية الأميركية، حول هذه التفاصيل التي تم الإعلان عنها بخصوص أساليب التحقيق مع المعتقلين في السجون الأميركية، فمن جانبه أكد السيناتور الديمقراطي كارل ليفن رئيس اللجنة العسكرية في مجلس الشيوخ أن هذا التقرير ـ الذي أصدرته اللجنة ـ يوضح أن التعذيب قد تم استخدامه بصورة منهجية منتظمة ضد المتهمين بارتكاب جرائم إرهابية أثناء التحقيق معهم، واعتبر ليفن أن التقرير يقدم إدانة واضحة للسياسات التي اتبعتها الإدارة الأميركية في التحقيق مع المعتقلين، وإدانة صريحة أيضًا لكبار المسئولين في هذه الإدارة الذين حاولوا توجيه اللوم عن هذه الممارسات البشعة إلى صغار الضباط.

ومن ناحية أخرى لفت التقرير الانتباه إلى أنه لم يصدر تعليق من جانب المحامي العام إيريك هولدر، الذي أكد أن وزارة العدل بصدد إجراء تحقيق بخصوص هذا الأمر، من أجل معرفة ما إذا كان المسؤولون في وزارة العدل قد سمحوا بإصدار هذه المذكرات المتعلقة بأساليب التحقيق مع المعتقلين دون الالتزام بالمعايير القانونية، التي وضعت من جانب وزارة العدل من أجل تنظيم استخدام هذه الأساليب.

ولفت شابيرو الانتباه إلى أن هناك ثلاث مجموعات من الموظفين سواء في وكالة المخابرات المركزية الأميركية أو وزارة العدل، تم تصنيفهم طبقًا لمدى انتهاكهم هذه المعايير القانونية، المجموعة الأولى وهم الذين استخدموا أساليب التحقيق القاسية قبل صدور هذا الدليل المتعلق بالمعايير القانونية الخاصة بأساليب التعذيب، أما المجموعة الثانية هم الذين تعمدوا انتهاك هذه المعايير في التحقيق مع المعتقلين، أما المجموعة الثالثة فهم مجموعة المحامين في وزارة العدل والذي أنيط بهم وضع هذا الدليل القانوني، ولكنهم بالرغم من ذلك أقدموا على انتهاك المعايير القانونية التي أسس لها هذا الدليل في التحقيق بإعطاء الضوء الأخضر للمحققين لاستخدام هذه الأساليب.

أسرار الأمن القومي في متناول الجميع

أما كريس والاس في برنامجه FOX News Sunday، فقد استضاف المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الجنرال مايكل هايدن، الذي أكد أن هذه الوثائق التي شملها قرار الرئيس باراك أوباما ستكون متاحة لعامة للعامة، تشتمل على أسرار عليا متعلقة بالأمن القومي الأميركي. وبحكم التعريف فإن ما يقع ضمن الأسرار العليا للبلاد هو ما يمكن أن يتضمن معلومات إذا تم نشرها للجميع فإن ذلك يعرض الأمن القومي لكثير من المخاطر الكبرى، وهذه الوثائق التي تم الإفراج عنها اتفق الرؤساء الأربع السابقون لوكالة المخابرات المركزية أنها تتضمن أسرارًا عليا، ومن ثم فإعلانها سيؤدي إلى تهديدات حقيقية للأمن القومي الأميركي.

وجدير بالذكر أن هايدن كان قد تولى منصبه كرئيس لوكالة المخابرات المركزية منذ عام 2006 حتى قبل ثلاثة شهور مضت، أي إنه تولى منصبه بعد إصدار هذه المذكرات في الفترة من 2002 إلى 2005.

وعن التأثيرات في الواقع العملي لمثل هذا القرار الذي اتخذه أوباما، أشار هايدن إلى أن المستفيد من هذا القرار هم أعداء الولايات المتحدة الأميركية. فقرار الرئيس بعدم استخدام مثل هذه الأساليب في التحقيق مع المعتقلين، يحرم الولايات المتحدة من مصدر هام يمكن من خلاله الحصول على معلومات هامة حول المخاطر التي يمكن أن تهدد الأمن القومي الأميركي.

أمن أميركا القومي بات في خطر

وفى السياق ذاته أكد هايدن أن الرئيس بقراره هذا لم ينه فقط استخدام أساليب التحقيق التي يعتبرها بمثابة تعذيب، وإنما أيضًا بدأ في وضع مجموعة القواعد والحدود القانونية على استخدام هذه الأدوات والأساليب في التحقيق مع المعتقلين داخل السجون والمعتقلات الأميركية، وقد اعتبر هايدن أن هذا الأمر الأخير خطير جدًا بالنسبة للولايات المتحدة لأنه ليس من المنطقي أن يعرف الأعداء، في إشارة إلى الإرهابيين والمعتقلين في السجون والمعتقلات، المدى الذي يمكن أن يصل إليه من يقومون بالتحقيق معهم في استخدام أدوات وتكتيكات للحصول على اعترافات منهم، مما سيجعل مهمة ضباط وكالة المخابرات صعبة للغاية. ومن ثم فإن الوكالة الأولى التي تعتبر خط الدفاع الأول عن الأمن القومي الأميركي سوف تكون مقيدة في أداء مهمتها.

وردًا على التصريحات التي أكد فيها المتحدث الصحفي باسم البيت الأبيض روبرت غيبس أن استخدام مثل هذه الأساليب القاسية يجعل الولايات المتحدة أقل أمنًا، وعن تصوره للكيفية التي يرى بها اقتراب الرئيس باراك أوباما للحرب على الإرهاب، أكد رئيس وكالة المخابرات السابق أنه لا يمكن أن يصدر حكمًا نهائيا على رؤية أوباما للحرب على الإرهاب، ولكنه أكد أن تصريحات المتحدث الصحفي للبيت الأبيض تنقلنا إلى حقيقة أخرى هامة، هي ما أسماه هايدن حقيقة غير مناسبة حقًا وطبقًا لتفسيره لهذه الفكرة، فإنه يقول: إن غالبية الشعوب والأفراد التي ترفض هذه الأساليب والتكتيكات في التحقيق تريد أن تقول إن حكوماتها لا تستخدم هذه الأساليب، وهو موقف مشرف كما يقول هايدن، ولكنه أكد في الوقت ذاته على أن الحقيقة تؤكد أن استخدام مثل هذه الأساليب في التحقيق جعلت الولايات المتحدة أكثر أمنًا، وهذا هو ما أشار إليه خطاب الرئيس جورج بوش في سبتمبر 2006 من أن اعتراف أحد المعتقلين، من خلال استخدام هذه التكنيكات والأساليب في التحقيق، قد قادت إلى اعتقال آخر، وهذا بدوره قاد إلى اعتقال آخر وهكذا.