&
لا تزال قصص الكاتب الروسي أنطون تشيكوف(1860-1904) تحتفظ بسحرها ونضارتها وجمالها المدهش. ولا يزال القراء في جميع أنحاء العالم يتهافتون على قراءتها لما تتميّز به من مكوّنات فنيّة عالية، ومن عمق في سبر أغوار النفس البشرية. فلكأنها كتبت لجميع البشر منذ بدء الخليقة.
وقد ولد أنطون تشيكوف في 17 جانفي -يناير 1860 في "تاغانبروغ"، وهو ميناء بحر"أزوف". وكان والده عبدا حتى عام 1844. أما والدته فهي إبنة تاجر. وقد عاش تشيكوف طفولة شقيّة إذ أن والده كان فظّ القلب، يضربه، ويضرب إخوته، وزوجته كل يوم تقريبا. وفي ما بعد سيكتب قائلا:”لم أستطع أن أسامح أبي في أيّ يوم من الأيام. فقد كان يضربني بالعصا عندما كنت صغيرا". وفي رسالة إلى أخيه، تحدث عن قسوة والده تجاه أمه قائلا:”أودّ أن أذكّرك بأن الإستبداد والأكاذيب دمّرت شباب أمك، كما دمّرت طفولتنا، بحيث أني أحسّ بالرعب والغثيان حين أفكرفيها حتى في الوقت الحاضر...الإستبداد سلوك إجرامي إلى أبعد حدّ". ومشيرا إلى شقاء طفولته، كتب يقول:”في طفولتي لم تكن لي طفولة".
في عام 1879، التحق أنطون تشيكوف بعائلته التي كانت قد استقرت في موسكو، وفيها انتسب إلى كلية الطب. في الآن نفسه، أخذ ينشر مقالات في بعض الصحف والمجلات بأسماء مستعارة. وبعد اغتيال القيصر ألكسندر الثاني عام 1881، كتب مسرحيّة بعنوان:”بلاتونوف" إلاّ أنها لم تحصل على النجاح المرجو. أما مسرحيته الثانية:”على الطريق الكبير"، فقد تمّ منعها من قبل الرقابة. وبعد أن أكمل دراسته في الطب، عمل أنطون تشيكوف طبيبا في مناطق مختلفة، مكتسبا تجارب مهمة، ومحتكا بالناس ليكون البعض منهم شخوصا في قصصه.وفي عام 1884، أصدر أول مجموعة قصصية بعنوان:”حكايات مولوبان". بعدها شرع في كتابة مقالات في جريدة"الأزمنة الحديثة" المحافظة التي كانت تصدر قي مدينة بطرسبورغ. وفي تلك الفترة تلقى رسالة من كاتب معروف آنذاك، وفيها يقول له:”أنا على يقين بأنك سوف تكتب أعمالا جيّدة للغاية، أعمالا فنيّة بالمعنى الحقيقي للكلمة. وسوف تُدان أخلاقيّا إذا ما أنت عجزت عن تحقيق هذه الآمال وهذه الطموحات". وابتداء من عام 1890، بدأ أنطون تشيكوف يحقّق نجاحات هائلة في مجال كتابة القصة القصيرة، والمسرح. وقد حظيت أعماله بإعجاب كبار الكتاب الروس من أمثال تولستوي، ومكسيم غوركي الذي كتب عنه يقول:” يبدو لي أن كلّ إنسان ينتابه إحساس غير واع في حضور أنطون تشيكوف بأن يكون أكثر بساطة وصدقا وأمانة مع نفسه. ولقد شهدت مناسبات عديدة رأيت خلالها أشخاصا يتخلّون عن محاولة إطلاق العبارات الطنّانة المستعملة في الكتب، وعن تلك التفاهات التي نحاول نحن الروس أن نتحلّى بها لكي نخلع على أنفسنا صفة الأوروبيين، تماما كما يحاول أبناء الأقوام المتوحشة أن يزينوا أنفسهم بالأصداف وأسنان الأسماك. أما انطون تشيكوف فلم يكن قط مغرما بأسنان السمك، وريش الديكة، بل ويحرجه لّ ما هو مزوّق، رنّان، وغريبممّا يتحلّى به الناس لكي ينتحلوا لأنفسهم مظهرا يثير الإعجاب. وكثيرا ما لاحظت أنه كلما التقى بواحد من أولئك الذين يتزيّنون بهيئات مبالغ فيها إنما يحسّ إحساسا لا يقهر بأن عليه أن يحرّر هذا الإنسان من بهارجه التي تثقل كاهله، ونشوه وجهه الحقيقي، وتكبل روحه الحيّة".
مبكرا، أصيب انطون تشيكوف بداء السل الذي قتله في إحدى المحطات الإستشفائية في "الغابة السوداء" في جنوب ألمانيا. وفي الكتاب الذي خصصه لسيرته، وصف الفرنسي هنري ترويا نهايته قائلا:” كان تشيكوف يهذي بفعل الحمى. كان يتحدث عن بحّار، ويتساءل عن اليابانيين وعيناه تلتمعان. حين حاولت زوجته أولغا أن تضع كيس ثلج فوق صدره، استعاد وعيه، وقال لها:”لا تضعي ثلجا قط على معدة فارغة". كانت النوافذ مفتوحة على مصراعيها، ولكنه كان يلهث لالتقاط أنفاسه، والعرق يتصبب على صدغيه. وصل الطبيب في الثانية فجرا.وحين رآه،انتصب تشيكوف في فراشه،واستند إلى وسادة. وفي حركة مجاملة أخيرة، استجمع كل ما لديه من معلومات بالألمانية ليقول:”Ich Strebe” (أي:إني أموت). وما لبث الطبيب أن أعطاه حقنة كافور غير أن قلبه لم يتجاوب معها. وكان على وشك طلب إسطوانة أكسيجين إلاّ أن تشيكوف الذي ظل صافي الذهن حتى اللحظة الأخيرة من حياته، قال بصوت متقطع:”ما الفائدة. لن تصل إلاّ بعد أن أكون قد أصبحت جثة هامدة! لذا طلب الطبيب زجاجة شامبانيا. حين وصلت الشامبانيا، احتسى تشيكوف كأسا منها، ثم التفت إلى زوجته أولغا، وقال مبتسما:”لم أشرب الخمر منذ وقت طويل!”. ثم تمدّد على جنبه الأيسر. بعد لحظات قليلة، توقف تنفسه، وانتقل من عالم الحياة إلى عالم الموت بنفس البساطة التي اتصفت بها قصصه".