يبقى quot;عمانوئيلquot; .. ويرحل مُنكـِـروه!

عـلي ريـاح
[email protected]


علي رياح كان كمنْ يخرج من بطون تلك الأساطير الشعبية التي تنتهي بالتراجيديا ، لكن quot;رمزهاquot; يشمخ بطلا quot;حياquot; تخلده حكايات تتوارثها الأجيال .. عمو بابا من نمط الرجال الذين تفارقنا أجسادهم ولا تغادرنا روحهم الزكية التي تتنقل في بيوتنا عبر ضحكة مجلجلة كان يطلقها ، أو بتك اللهجة العراقية quot;المتكسرةquot; التي استمرأناها وأحببناها ، فصارت جزءا من نسيج علاقة تربطه بالعراقيين كلهم مهما اختلفت مشاربهم ..

يودعنا أبو سامي من زاوية الظل الباردة التي أهُمل فيها ، ولكنه يستودعنا خمسين سنة من نجومية أخاذة لم يحققها نجم قبله ، ولن يحققه إلا نموذج من نسيجه .. وتلك مهمة مستحيلة في زماننا هذا ، فلقد جمع عمو بابا نجاح اللعب المبهر إلى مجد التدريب السامق ، فلا أحد يجاريه أو يباريه ..

كان الرجل يقبل القدر ويسخر من المقادير .. كنت حين أقول له quot;أطال الله في عمركquot; يقول : quot;لقد نلت الكثير من خير الحياة ومن عيوبها ، وكل ما يحيط بي يزيدني يقيننا بأنني سأرحل قريباquot; .. لله درّك يا أبا سامي ، تضع حكمتك البليغة بكلماتك المبسّطة التي نضحك لها من فرط محبتنا لك ، ولصدقك ، ومن يقيننا الثابت بأنك ما أحببت إلا العراق والعراقيين ، وقد شملت قومياتهم ومذاهبهم وطوائفهم بحنوك الجميل!

وفي رحيل عمو إلى مثواه الأخير ، بقاء للموقف الثابت الذي كان عليه .. فالرجل كان يحب ان ينتمي دوما إلى quot;معسكر المعارضةquot; حتى لو قـُدمت له quot;الزعامةquot; على طبق من ذهب .. ولن أنسى أبدا أخطر وأهم وأعجب جملة قالها في حياته قبل ست سنوات بالضبط عبر تصريح quot;للجزيرة الرياضيةquot; : quot;ما الذي يمنع من أن أكون رئيسا للعراق ما دمت أحظى بكل هذا الحبquot; .. الرجل لم يكن يفكر بعقلية السياسيين الاستحواذية ونهمهم الطاغي للحكم والتحكم ، إنما كان يفكر بجمع الشتات ، ولـَمّ القلوب ، وتوحيد المشاعر ، وحشد الصفوف للإقبال على حب العراق بكل الجوارح..

هذا هو عمو بابا الإنسان الغارق في نبله الشفيف العفيف النظيف .. أما في ساحرتنا الكرة ، فهو كما قلت ذات يوم ـ ولي الشرف في قولها ـ quot;عمّ الكرة العراقية وأبوهاquot; .. لا أحد مثله حين نجمع براعته في اللعب إلى فرادته في التدريب .. كان ذلك اللاعب الكبير الذي غزا الأفئدة بأسلوبه المهاري لاعباً في العقدين الخمسيني والستيني من القرن المنصرم ، لكنه حين تحول إلى التدريب ، مهنة الصبر والعرق والدموع ، أضحى لاسمه معنى النجاح غير المسبوق .. فقد أصبح الصانع الحقيقي للمجد الكروي العراقي يوم شحت الانجازات ..

عمانوئيل أو عمو بابا هو الصانع الحقيقي للمجد الكروي العراقي يوم شحت الانجازات .. بفضله اعتلى العراق منصة التتويج بطلاً للخليج في الدورات الخامسة والسابعة والتاسعة في بغداد ومسقط والرياض .. وبعقليته التدريبية التي سبقت أفقها المحلي حصل العراق على أول وآخر وسام ذهبي للكرة في الدورات الآسيوية عام اثنين وثمانين في الهند .. ومعه جدد العراق وقفته متوجا بكأس العالم العسكرية في الكويت عام تسعة وسبعين .. وبدأبه اليومي الشديد كان للعراق ـ تحت ظله ـ شرف الانتقال إلى نهائيات دورتين اولمبيتين أقيمتا في لوس أنجلس 1984 وسول عام 1988 ..

وما هو أهم من الألقاب والكؤوس ، صنعه عمو بابا بفكره الكروي الثاقب ، فله يعود الفضل في ولادات متكررة لنجوم الكرة العراقية خلال ثلاثة عقود متصلة من عمر الزمن ، ومن النادر أن تعرف نجما عراقيا كبيرا مرَّ على سجل النجومية من دون أن يقف شيخ المدربين إما مكتشفا لموهبته أو راعيا لها .. هل أمرّ على الأسماء التي أخذها عمو من مجاهل الظل إلى فضاء النجومية ؟! لن افعل حتما ، ولن يجرؤ غيري ، فمثل هذا الحيّز لا يسع المئات من اللاعبين الذين عرفتهم الدنيا أبطالا في الكرة ..

لكن عمو بابا حين كان يقدمهم ، ويرمقهم بنظرة الرعاية والإعجاب ، لم يكن يدرك أن الأيام ستدور ، ليرد له أغلب النجوم دين الأمس بجحود اليوم .. بعض هؤلاء الذين رأيناهم يرتدون النظارات السوداء ويمسحون دمعة باردة من خدودهم ، كانوا حتى رحيل quot; الشيخquot; يعاملونه بإهمال وتعال ٍ فيه كل عقوق الدنيا .. لكنهم أمام الكاميرات راحوا يتغنـّون بمناقب عمو بابا بعد أن رحل أسيرا للإهمال ، وبعد أن ودّع عالمنا كسير النفس على أبناء قليلي الوفاء!

هل أقول وداعا يا أبا سامي ؟.. النفس واللسان والقلب تأبى أن تودعك .. كنت حاضرا في كلماتنا ، وكنت quot;أسطورتناquot; في صناعة الفرح الصعب ، ولهذا فانك لن تذهب عن الوجدان العراقي الذي يستبقيك ويوسع لروحك كل مجلس، وسيلفظ جاحديك ومنكريك حتى لو كانوا أحياء يتحركون الآن بيننا يؤدون دور البطولة في quot;المأتمquot; على شاشة التلفاز!