المتعاونون مع المؤسسة الإسرائيليّة من بين ظهرانينا من وجهة نظرنا نحن الفلسطينيين، هم عُملاء مجبولون من طينة رخيصة، لكنهم في الأدبيّات الإسرائيليّة هم متعاونون أو معينون وباللغة العبريّة (سيْعَنيم) اصطلاح ذو إيحاء إيجابيّ. ولهم قسط وافر في الدراسات الإسرائيليّة ولعلّ أهمها كتابي د. هِلِل كوهن: quot;جيش الظلالquot; عن هؤلاء قبل النكبة و-quot;عرب جيّدونquot; عن هؤلاء بعد النكبة وبالذات فترة الحكم العسكري 1948 حتى 1966. لكن الأصوات الإسرائيليّة لم تقف عند دراستي د. هلل كوهن فما زالت تتابع أحوالهم واضعة اجتهاداتها عن أهميّة الدور الذي قاموا ويقومون به في مساعدة الدولة، والحاجة إلى معاملتهم بما يليق بدورهم خصوصا وأن شعورا سائدا لديهم ولدى بعض أوصيائهم أن الدولة وبعد استنزافهم quot;ترميهم للكلابquot; كالمقولة العبريّة.
المؤرخ د. هِلِل كوهن في كتابه quot;جيش الظلالquot; يصل إلى خلاصة هامة عن مدى الدور الذي لعبه هؤلاء في تاريخ تأسيس الدولة اليهوديّة فيقول بتصرّف: quot;لولا مساعدة هؤلاء لكانت حدود الاستيطان (اليِشوف) قبل ال-48 مختلفة اختلافا جذريّا وبالتالي لكانت حدود الدولة تختلف كذلكquot;. في إشارة إلى دورهم بشكل عام وفي تمليك المستوطنين ومنظماتهم المختلفة الأراضيquot;.
دراسات هلل كوهن أثارت اهتماما كبيرا بيننا نحن عرب الداخل، ولكن أظنني أن ما همّنا بها كان حبّا في الاستطلاع وتصفية حسابات فيما بيننا وليس الاستفادة منها لمحاولة تنظيف بيتنا من مثل هؤلاء فمثلهم كثيرون ما زالوا بين ظهرانينا، والتنظيف يجب أن يأخذ بالحسبان أن جزء منهم رأى ويرى بتعاونه إنقاذا لنفسه من ظلمنا حمائليا وعشائريّا وطائفيّا وظلمنا حكاما، ومثل هذا الجزء يمكن إنقاذه وحتّى الحول دون سقوط أمثالهم مسبقا إن وفّرنا لهم أسباب حياتهم وحياة أولادهم حياتيّا وفكريّا برفع ظلمنا عن بعض اجتماعيّا وسياسيّا.


نحن ونتيجة لإحباطنا الكبير نحاول التقليل من معالجة ظواهر ضعفنا ومنها هذه الظاهرة المستفحلة بين ظهراني أمتنا عربيّا وإسلاميّا وتُدفّعنا يوميّا أثمان غالية، وفي غالب الأحيان ينبع التقليل انطلاقا من امتناعنا عن quot;نشرغسيلنا الوسخquot; والتغطية أو التغاضي في أضعف الإيمان عن هزائمنا ثقافيّا ومن ثمّ ميدانيّا. ونصير نتغنّى بكل إنجاز محدود ونحوله نصرا تغطية على عجزنا، فيصير مثلا مجرّد ظهور المنتخب الجزائري في المونديال نصرا ومغادرته من الجولة الأولى بنتائج متواضعة quot;رفع رأسquot; كما جاء في عنوان إحدى الصحف المحليّة، ومع أن مشاركته كادت أن تولّع حربا لولا أن الله ستر ولم تكن مصر والجزائر دولا متجاورة كما حدث مرّة إن لم تخني الذاكرة، بين إلسيلفادور والهندوراس في أميركا الوسطى.


جاء الوقت الذي يحتّم علينا أن ننطلق من أننا أمّة وشعب وأقلية، نضجنا بما فيه الكفاية لنطرح نقاط ضعفنا ونعالجها لا أن نظلّ نخزّنها في لا- وعينا متغنين بأشباه إنجازات تعزية لأنفسنا عن هزائمنا السياسيّة والثقافيّة. وبطرحنا نقاط ضعفنا والتعامل معها لا نكون قد وضعنا خطواتنا في طريق إصلاح ما بنا فعلا وحسب بل وفي طريق انطلاقنا المرجو والمعمول عليه فعلا لا قولا.
عودة على بدء، نشر المنتدى القانوني من أجل إسرائيل دراسة تحت عنوان quot;المتعاونون في إسرائيلquot; (هسيْعنيم بيِسرائيل) جاء في الإهداء ما ترجمته:
quot;لذكرى المتعاونين مع جهاز الأمن الإسرائيلي الذين قدّموا أرواحهم، وأحيانا أرواح ذويهم، لأجل دولة إسرائيل والشعب اليهودي وإقامة الاستيطان اليهودي في البلاد. رغم مساهمتهم العملاقة، ممنوع علينا نشر أسمائهم ونشاطاتهم، وهكذا ممنوعون نحن أن نقدّم لهم الاعتراف بالفضيلة التي يستحقّون. نحن، الشعب اليهودي، مدينون لهم بالاعتراف والتقدير والحب، ونصلي إلى الله المقدس تبارك أن يدفع أجرهم عنّاquot;.
وتقول هذه الدراسة ما ترجمته:


quot;المُعينون والمتعاونون والمصادر المعلوماتيّة هم مركب هام في التفكير الأمني الإسرائيلي، بواسطتهم نجحت وتنجح مؤسسات الأمن الإسرائيلي أن تكتشف مصادر الإرهاب والتهديد ضد الدولة وتضع يدها على خلايا تخريبيّة في طريقها لتنفيذ عملياتها وتعتقل مطلوبين في بيوت مخبأهم، وأيضا في إطلاق سراح جنود ومواطنين أسرى لدى الأعداءquot;.
جاءت هذه الدراسة من باب معالجة ونقد quot;نكران الجميلquot; الذي يُواجه به المتعاونون، وهذه المرّة هؤلاء من سكان الضفة الغربيّة وقطاع غزّة وجنوب لبنان، من قبل المؤسسة الإسرائيليّة في كل ما يتعلّق بحمايتهم وتوطينهم وإعالتهم هم وعائلاتهم، فتقول الدراسة تحت عنوان:
quot;قبول المتعاون لمسار التأهيل: توجد آلاف العائلات التي تقررّ أن تُدخّل مسار التأهيل. هذا الرقم لا يعكس الحجم الحقيقي للمتعاونين المحليين العرب في يهودا والسامرة وغزّة الذين تعاونوا مع أذرع الأمن الإسرائيليّة على مدى أربعين سنة والمستحقّين الدخول مسار التأهيل. ونحن نعتقد أنّ جزء من المشكلة نابع من رغبة الدولة التوفير في المصروفات، ولكننا لا نستطيع أن نعرف ذلك بالتأكيد لأنها تحافظ على سريّة مواصفات المتعاونquot;.


تُقرّ المعاهدة الأمميّة ضد التعذيب 1984 الموقعة عليها إسرائيل منذ العام 1986 والتي عادت وصادقت عليها عام 1991، أن لا يُطرد أو يُسلم أو يُعاد إنسان لدولة أخرى يمكن أن يتعرض لتعذيب فيها. ورغم ذلك فإسرائيل وضعت لنفسها قاعدة مختلفة وهي: عدم التسليم فقط عند الخطر على الحياة. وهكذا تُعامل ليس فقط الناس العاديين وإنما مُعينيها والمتعاونين معها بلغتها، وطبقا للمقولة الأميركيّة بتصرّف quot;الزنجي قام بمهامه الزنجي يستطيع أن يذهبquot;.
وتجيء الدراسة بمثالين، الأول أن مهددا قُتل أخوه وسُجن أبوه على يد السلطة الفلسطينيّة فلجأ هو إلى إسرائيل وهوجم هنا وأُصيب ب-12 جرح سكين، وعندما احتاج المعالجة الطبيّة رُفض طلبه لعدم توفر التغطية الطبيّة وساءت حالته لعدم تلقيه العلاج الأساسي ومن ثمّ مات، ولم يقبل المستشفى تسليم الجثة لأخ له إلا إذا دفع 1000 شيكل، ودُفن في مقبرة مهجورة، وكل ذلك لأن إسرائيل لم تر خطرا على حياته لتؤهله.


أما المثال الثاني عن متعامل من الجنوب اللبناني، فينقل عنه محاميه قوله أنه يفضل أن يعود للبنان ويقبع في سجون حزب الله سبع سنوات مع التعذيب، من أن يواجه كل هذا الإذلال في التأهيل من قبل السلطات الإسرائيليّة.


هذا ما نعرفه عن مصير الخونة ونحن نذكر ما قاله أحد نشطاء الحركة الصهيونيّة مشغلّي هؤلاء قبل ال-48 حين توجه إليهم بعد قيام الدولة وعلى ضوء طلباتهم المختلفة وبترجمة وبتصرف: quot;لا تحملونا جميلا فأنتم كالعلق (نوع من الديدان مصّاص دماء) وكنّا ندفع لكم ثمن خدماتكمquot;. ورغم ذلك نتساءل لماذا هذا الكم الهائل من المتعاونين كان وما زال يرافقنا كظلّنا في كل بلدة من بلداننا؟!
وحتى لا نكون quot;مازوخيينquot; فالشعوب ملأى بمثل أولائك وعرف التاريخ الكثيرين ولعلّ في قصيدة الشاعر البريطاني رودارد كيبلينغ quot;كونجا دينquot; المتطوع الهندي الذي أنقذ سيّده على حساب إنقاذ نفسه المثل الساطع والمعبّر كيف يصل الأمر بهؤلاء على إلغاء حتى أنفسهم وليس فقط ذويهم أمام أسيادهم.
ولكن عندما يدور الكلام عن آلاف العائلات وعن أن هذا الرقم لا يعكس الواقع لأن العدد أكبر، ويدور عمّا نعرف في هذا السياق كل في موقعه ويدور عمّا سبّبه هؤلاء لنا قبل النكبة وبعدها وبعد احتلال الضفة وغزّة وما سببوه لنا في الداخل وما زالوا، فمن حقّنا لا بل من واجبنا ليس فقط أن ننشر الظاهرة لا بل أن نتداول فيها، فالتداول والمعرفة هي الخطوة الأولى ولكن الهامة في محاربتها والحدّ منها.


التقليل من أهميّة الأمر وإبقاء هذه الظواهر في الظل والتغطية عليها لأسباب حمائلية أو عشائريّة أو طائفيّة أو شعبويّة مثلما هو حاصل، والاستعاضة بالتغنّي بانتصارات حتى لو كانت جزئيّة أو أحيانا وهميّة، لن يغيّر من واقعنا إن لم نتعامل مع السلبيّ قبل الإيجابيّ، ولعل في تصرّف quot;أبناء عمومتناquot; في مثل هذه الحالات، لنا مثل.
لا بدّ هنا من الإشارة إلى ظاهرة عانينا منها وما زلنا وهي quot;الاتهام بالعمالةquot; لدرجة أن صار ويصير كل من يخالفني الرأي عميلا، ف-quot;ضاعت الطاسةquot; وتغطى بذلك العملاء الحقيقيّون وصاروا كمن quot;يحك لهم على بيت جربquot; وصالوا وجالوا لا بل استساغوا اللعبة وصاروا هم مصدرا إضافيّا للاتهام.


وأخيرا علينا أن نجيب عن السؤال: هل هذه الكثرة هي بسبب الرخص الضارب الأطناب أم أن قسما منهم على الأقل نحن دفعناهم إلى ذلك لجوء من ظلم نابع عن تخلّفنا اجتماعيا وسياسيّا ديموقراطيّا ونستطيع إنقاذهم والحؤول دون سقوط أمثالهم إن تغلبنا أولا على تخلفنا هذا ونحن قادرون إن غيّرنا بعض ما بأنفسنا؟!


تموز 2010 المحامي النائب سعيد نفاع

نائب عربي في الكنيست الإسرائيلي