رويدا رويدا تتجه الثورة التونسية الموءودة نحو مقبرتها الأزلية بعد أن أخمد أنفاسها النهائية أبناءها وبناتها. ثلاث سنوات فقط كانت كافية لجعل اليأس يصيب قطاع واسع من التونسيين، وتنهار جميع الأحلام التي من أجلها ناهضوا نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
في البناية الضخمة لمقر وزارة العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان يجتمع بين الفينة والأخرى زعماء أكبر الأحزاب السياسية للبحث عن صيغ للتوافق حول تعيين رئيس حكومة مؤقت جديد للبلاد. سيارات مصفحة تملأ وتفرغ يوميا شخصيات سياسية تقضي ساعات طوال للنقاش حول الشروط الواجب توفرها لدى المرشحين لتولي ذلك المنصب قبل أن ينفضوا من جديد عن اجتماع ينتهي بتحديد موعد اجتماع يوم الغد. وهكذا يتواصل المسلسل اليومي الذي لا يقض مضجعه سوى بعض العمليات الارهابية هنا وهناك أو بعض الفرقعات التي يُطلقها عدد من الباحثين عن الشهرة في زمن الفوضى الاعلامية.
نفس تلك السيارات لا شك أنها تمرّ بالأحياء الشعبية والمناطق المفقّرة التي لم يتغير حالها منذ سنوات. هناك يقبع عشرات الآلاف من الناس الذين تحدوا عامل الخوف الذي طالما هيمن على مختلف طيات المجتمع في ظل النظام البائد، وقارعوا مختلف الأجهزة التسلطية له.
إن حركة النهضة الذي تقود ائتلافا حكوميا بمعية حزبين صغيرين (يُقال انهما يدافعان عن العلمانية والقيم اليسارية، والله أعلم !) تتفاوض مع خليط عجيب من الأحزاب السياسية المعارضة لها، قصد تسليم مفاتيح الحكم. قلنا تسليم الحكم؟ هل عاشت منطقتنا تجربة لاسلاميين تركوا السلطة طواعية؟ لنكرر ما يقوله القادة الأوربيين صباحا ومساء لإخفاء دعمهم الخفي للحركة الاسلامية التونسية نكاية في الأمريكان: quot;ان تونس يمكن أن تنجح في مسارها الديمقراطيquot;.
الأوربيون ضخوا في ظرف سنتين ما يناهز عن 168 مليون أورو (قرابة خمس ميزانية سنوية لنادي كرة قدم واحد [نادي برشلونة على سبيل المثال]) لدعم الاصلاحات التي قامت بها الحكومة في مجالات الحكم الديمقراطي والاقتصادي ومرافقة عملية التحول الديمقراطي. الحكم الديمقراطي الوهمي الذي يرافق اعادة العمل بقانون الأوقاف القروسطي، وسجن شاب لمدة سبع سنوات ونصف بسبب نشره على الفايسبوك صورا لم تُعجب البعض، وينظّم فيها حزب التحرير الرافض للديمقراطية أنشطة علنية، ويُضرب فيها سكانها برصاص الرشّ لمجرد التظاهر، ويُغتال فيها المعارضون ذنبهم أنهم رفضوا حكم الاسلاميين!
قادة أوروبا صمتوا عن اخلالات حقوق الانسان وغياب الديمقراطية في ظل الأنظمة السابقة بتعلة بالية: التصدي للمدّ الارهابي، وهاهم يصمتون مرة ثانية بتعلة لا تقل اهتراء من الأولى: السيادة للشعب وحده. انها ذات النظرة المتعالية والاستعمارية التي لا ترى من منظومة حقوق الانسان والحريات العامة والفردية سوى تلك التي تقف عند حدود الفضاء الأوروبي أو الغربي دون سواه. إن أقصى ما يقدمه هؤلاء هو سوى رذاذ من مال يُصرف في ورشات التكوين والتوعية بالفنادق الفاخرة ليفتخر الأوروبيون لاحقا أمام شعوبهم أنهم خصّصوا منحا لنشر الديمقراطية لدى الشعوب الفقيرة!
في الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، يبحث الأمريكيون عن الصيغة الأفضل للاجهاز نهائيا على الحركة الاسلامية التونسية بأخف الأضرار، بعد أن تم التخلي عن شقيقتها المصرية وقُلمت أظافر بقية فروع الاخوان المسلمين في ليبيا وسوريا. لقد اهتزت الولايات المتحدة بقتل سفيرها بالعاصمة الليبية طرابلس وباقتحام مقرات سفارتها بتونس والقاهرة، بعد ان اطمئنت لوهلة بالوعود التي عمل على تقديمها الاخوان المسلمون فور اندلاع الثورات العربية. لا يُدرك اسلاميو العالم العربي أن الادارة الأمريكية تعي جيدا الخلفية الفكرية التي تقف عليها جميع الأدبيات المؤسسة للإخوان المسلمين التي تتأسس في جزء منها على كراهية مقيتة لغير المسلمين (ولنضع في تلك السلة ما نشاء ونضيف اليهم الأمريكيين بطبيعة الحال)، بالتالي فلا يمكن أن الأمريكان لا يُمكن أن يكونوا حلفاء لهم (تجربة مشوار بن لادن نموذجا).
فيكفي أن يمتنع صندوق النقد الدولي عن منح تونس ما سبق أن اتفق عليه من قروض، حتى تشح موارد البلاد وتفلس ميزانيتها، وهو مبرر كاف لينتفض الجياعى والفقراء والمعطلون ويتكفلوا بالتخلص من حكومة غير قادرة على خلاص رواتبهم وتنمية مناطقهم، وكفى الأمريكان شر القتال!
ليست حركة النهضة في تونس كتلة متجانسة رغم ما يُعرف عنها من لحمة أخوية لا تجد لها مثيلا إلا لدى المجتمعات السرية والموازية. إذ أن التباين بين قيادات المهجر (تلك التي تمكنت من الفرار من بطش النظام السابق) وبين القيادات السجنية (تلك التي ضحّى بها راشد الغنوشي ككبش فداء جراء أخطاء في التعاطي مع نظام الحكم مع بداية تولي بن علي السلطة) بدأت تبرز ملامحه للعيان. فقيادات الخارج التي قضت معظم أوقات متنقلة بين مراكز البحوث الأجنبية والجمعيات الحقوقية ومآدب العشاء في الدوائر الديبلوماسية تعي أن التعامل مع دوائر القرار العالمية تحتاج إلى كياسة ودهاء لا يمسك ناصيتها الجميع. وأن تونس التي لا تملك استقلالية قراراتها السيادية (فلا أمن غذائي أو طاقي، ولا قوات مسلحة معتبرة، وميزانية عامة غارقة في ديون تتفاقم سنويا، الخ) رغم مرور أكثر من نصف قرن على جلاء المستعمر الفرنسي عن أراضيها، لا يُمكن أن تؤسس نظام سياسي دون أن يحظى برضا الغرب (أو تلك التي لها مصالح مباشرة مع تونس) وموافقته، حتى ولو كانت وليدة صندوق الانتخاب.
فلا ربيع عربي ولا quot;بلّوطquot;، ما دامت السيادة الشعبية منقوصة ومبتورة وتخضع في آخر المطاف لأوامر آتية من وراء البحار والمحيطات. فصحيح أن انتخابات وقعت في شهر أكتوبر 2011، أفرزت مجلسا تأسيسيا أوكلت إليه مهمة سن دستور جديد يضع معالم أركان الدولة الجديدة، لكن حسابات الحقل لا تتطابق دائما مع حسابات البيدر كما يُقال. ذلك أن دموع الفرح بإجراء أول انتخابات حرة ونزيهة وشفافة في تاريخ البلاد سرعان ما تحولت إلى دموع الحزن على دولة تنهار أسسها شيئا فشيئا. فإسلاميون متعطشون ومتلهفون للحكم، لم ينتظروا الكثير من الوقت لينطلقوا في تنفيذ مخططاتهم في التصدي لقطار المسار التحديثي الذي انطلق في رحلته منذ فجر الاستقلال. تحديث أعرج غابت عنه الديمقراطية الحريات العامة والفردية بالفعل، وجاءت ثورة 14 جانفي لتصحح مساره وتعدل سكته. غير أن اسلاميي تونس كان لذلك بالمرصاد.
وسقطت تونس في مستنقع الصراع بين دعاة تصحيح مسار السكة أو التائقون إلى تغييره جذريا. صراع امتد أثره إلى جميع المجالات الفكرية والسياسية، وانخرط فيه سياسيون ومثقفون ورياضيون وفنانو كباريهات ورجال أعمال وإعلاميون. وتحوّل البلد إلى حلبة عراك ضروس حول بدائل مجتمعية لا تؤرق بال الجائع في بطنه أو المعطل عن العمل أو المفقّر.
في الأثناء، يستغل رئيس الجمهورية المؤقت المنصف المرزوقي هدوء المساحات المحيط بقصره بقرطاج، ليعدّ العدة في سرية مطلقة لقيادة انقلاب عسكري يثبّته في موقعه كرئيس دائم للبلاد. فبعد دفع رئيس أركان الجيش السابق رشيد عمار الى الاستقالة دفعا، واثر تغيير جميع القيادات العسكرية وتعويضهم بموالين له، يتحين المرزوقي الذي لن يصعب عليها حليفه حركة النهضة من التخلص منه في اللحظة المناسبة، الفرصة الآن لوضع الجميع أمام الأمر المقضي ويفرض سلطته على الجميع، علمانيين وإسلاميين دون استثناء.
أما في الجهة المقابلة لهذا المشهد، فيشحذ أنصار الحزب الحاكم السابق سيوفهم من أجل المشاركة في معركة تقرير المصير لاسترجاع مناطق نفوذهم الضائعة. أحزاب تتناسل دوريا، تجهر استعدادها للذود عن quot;المرجعية الدستوريةquot; (أي الليبرالية المشوهة التي تجد تمثلاتها في نمط ذلك المستبد المستنير) وتتحين الفرصة من أجل افتكاك ما تعتقد أنه اغتصب منها. جزء من القابلية للدكتاتورية بين المجتمع تجد لها رجع صدى لدى الحركات الدستورية التي أحكمت الاستفادة من تزايد المخاوف المبررة بخصوص أفغنة المجتمع التونسي.
وبطبيعة الحال في مثل هذه الظروف (في غالبها مفتعلة مختلقة)، هل بقي وقت للحديث عن أهداف الثورة التونسية؟ لحظة. هل تحققت الأهداف التي من أجلها ناضل التونسيون من أجل استقلال بلدهم؟ لننسى الموضوع اذن.
*صحفي من تونس
التعليقات