ليس من قبيل المبالغة القول، انه مع تسارع الاحداث السياسية في مصر، لاسيما في الايام الاخيرة من حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، وما بعدها استخدم مصطلح الشرعية على نطاق واسع سواء من قبل الرئيس محمد مرسي في خطبه الاخيرة، او من قبل مناصريه وكذا الحال مع مناوئيه، ومعهم طائفة كبيرة من المحللين والمهتمين بالشان المصري ووسائل الاعلام المختلفة، في حين ان نصيب مصطلح المشروعية من هذا التداول بدا محدودا واستعمل عادة للدلالة علىمصطلح الشرعية.
ولاجرم، ان تحديد المفاهيم ليس ترفا فكريا بقدر ما هو وسيلة ملحة لبناء معرفي يتيح فهم الواقع فهما علميا منهجيا بعيدا عن الاسقاطات الشخصية او الانطباعية التي اصطبغت بها كثير من الافكار المتداولة التي ياخذها كثير من الناس على انها مسلمات او بديهيات، في حين انها غالبا ما تكون نتاج صورة نمطية يولدها سلوك جمعي يتوارث من دون قراءة نقدية خشية الوقوع بين ثنائية المقدس والمدنس. في حين نجد ان معظم هذه الافكار او ما نعتقده على انها مسلمات سرعان ما تتهاوى امام التحليل العلمي.
وقد يبدو مفيدا ان نفك الاشتباك بين المصطلحين، ونقول إن العلاقة بين الانسان والسلطة هي علاقة فكر قبل كل شئ، وتحديد الموقف الانساني من السلطة هو الذي يعطيها شرعيتها من عدمها. والسلطة تستمد شرعيتها من الاجماع النسبي حولها، بمعنى ان الشرعية وفقا للمفهوم الديمقراطي تقوم اساسا على ان مصدر السلطات هو الشعب، والشعب هو الذي يقرر من يحكمه وبالتالي فان الشرعية ينبغي ان يتوافر فيها الاعتقاد او الايمان بان السلطة يجب ان تحكم بطريقة معينة، والثاني الضرورة اي ضرورة وجود هذه السلطة لتنظيم المجتمع. وحينما ينبذ المجتمع هذه السلطة او يثور عليها فاننا حينها نكون امام ازمة شرعية.
وبذا فان الشرعية لاتكتفي بالصندوق الانتخابي فحسب، بل ان هناك ركنين اساسين اخرين يكملانها وهما الانجاز، والرضا النسبي للجمهور.
اما المشروعية فتعني ان الحكام لاينبغي لهم ممارسة السلطة الا وفقا لقواعد يتم الاتفاق عليها، وغالبا ما يشكل الدستور معظم تلك القواعد، اي ان القواعد الدستورية هي التي تحدد طبيعة الممارسة السياسية المشروعة للحكام، فضلا عن القوانين المنظمة الاخرى.
وبالتالي فان هذه القواعد تكون ملزمة للحكام والمحكومين، والخروج عليها يقتضي المحاسبة التي توكل عادة الى سلطة القضاء. وهنا يسهل علينا فهم سلاسة العمل السياسي او الاداري في الديمقراطيات الراشدة، لانه لايوجد احد فوق القانون او القواعد المتفق عليها، ولا توجد عصبة او حزب او قبيلة او جهة تكون بمثابة الحامي للخارج عن القانون، لوجود اداراك جمعي ان نشاط السلطات السياسية او الادارية ينبغي ان تخضع لسلطة القانون والا فالامر يتحول الى فوضى.
صفوة القول، ان الشرعية تتاتى من الرضا النسبي للمواطنين على طريقة ممارسة السلطة وادارتها للبلاد، اما المشروعية فتدرك بمدى التزام نظام الحكم والادارة بالنظام القانوني، اي ان دولة المشروعية هي الدولة التي يتصرف فيها الحاكم والوزير والوكيل والمدير طبقا للقواعد المنظمة المنصوص والمتفق عليها.
وهنا يأتي السؤال المنطقي، من يملك الشرعية ومن يملك المشروعية في مصر، وهنا يذهب انصار الرئيس المعزول محمد مرسي انهم يملكون الشرعية إستنادا الى الصندوق الانتخابي، اما انصار ما اطلق عليهم الثورة الثانية او الثورة التصحيحة او سمها ما شأت، فهم يرون ان تحرك وزير الدفاع السيسي والنتائج التي افظت اليها تعطيهم الشرعية، لان الرئيس محمد مرسي لم يحقق ركنين اساسين هما الانجاز والرضا النسبي وان خروج الجماهير بالملايين عبر عن عدم الرضا هذا.
اما المشروعية فلم يتحدث عنها احد، فيما ينبغي ان يطرح جدل يتعلق بحقيقة مفادها هل ان الرئيس مرسي كان يحكم وفقا للقواعد الدستورية، والنظام القانوني؟ والجواب نعم وان كان بتحفظ، لكن بالمجمل الرئيس مرسي كان يتبع الاجراءات الدستورية والقانونية، وعليه فأن الحالة الوصفية لما جرى وفقا للمشروعية هو انقلاب عسكري، لكن المثلب الوحيد ان هذه القواعد صيغت دون توافق في دولة يتم إعادة تأسيسها، فالديمقراطية لاتكون عادلة في مرحلة التأسيس، والبديل هو التوافق في العملية البنائية كما شهدتها دول عدة ذات نظام ديمقراطي وصولا الى الديمقراطية الراشدة، لكن لا ينبغي ان ينصرف الذهن الى الديمقراطية التوافقية، لانها ابعد من ان تكون ديمقراطية. بل المقصود ان تتوافق الرؤى في مأسسة الدولة، ومن بعد هذا التوافق تصبح الديمقراطية والياتها اكثر عدالة وقبولا، ومدعاة لاستقرار الدولة.
وليس بجديد القول ان النظام الانتقالي يكون عادة مضطربا وهشا، والديمقراطية عادة تنحاز في المرحلة الانتقالية للجماعة الاكثر تنظيما لا الاكثر تمثيلا، وبالتالي فان فوز الاخوان بالانتخابات كان من الضرورة فهمه في سياقه المكاني والزماني، وعدم تحميله اكثر مما يحتمل، ولذا فان الخطيئة الكبيرة التي ارتكبها الاخوان هي انهم اعتقدوا انهم قادرون على صياغة نظام الحكم في مصر وفقا لايديولوجياتهم وبمقاساهم، لان الدساتير المنشئة للنظام السياسي المنشود لاتعني دساتير المنتصر، لاسيما وان مصر هي بلد تعددي بها اسلاميون وعلمانيون واقباط ونوبيون وليبراليون وقوميون، وبالتالي لايمكن لطرف ان يفرض رؤيته في بناء الدولة والمؤسساتعلى بقية الاطراف، وهي رسالة موجهة ايضا الى اللجنة الموكل اليها تعديل الدستور الحالي، بإن لا تطرح التعديلات الدستورية للاستفتاء دون توافق حقيقي.
إذن ما الحل؟ اعتقد يأتي دور الحل المركب، من خلال ابعاد فرضية الصدام، فالصدام ليس خيار خيرا لجميع الاطراف، بل دمارا وتدميرا للدولة المصرية ومستقبلها، وإبعاد الاخوان لن يحل المشكلة بل يحولهم الى كتلة عنفية سوف تجر البلاد الى الفوضى والعنف لعدة سنوات قادمة، وسوف تصبح اكثر دموية اذا ما اختار السلفيون الانضمام اليهم، أما البديل العقلاني هو الحوار ومزيد من الحوار وتقديم التنازلات المبادلة من اجل مستقبل مصر، لان مصر اكبر من الجماعة واكبر من مناوئيهم.
أما بالنسبة للاخون فينبغي ان يعترفوا بان التغيير قد وقع، وان يعتبروا ان ما جرى ليس سلبيا بالمطلق، بل فيه نواح ايجابية زاويا اخرى، تستند الى اربع عناصر اساسية:
الاول: ما حدث قد مثل فرصة حقيقية للاخون للتخلص من مغارم السلطة وعبئها، فكل يوم يمضي بوجود الرئيس مرسي على رأس السلطة يعني خسارة فعلية للاخوان على الساحة المصرية، إذ شهدت السنة التي قادها الرئيس مرسي تآكلا فعليا لساحة التأييد للاخون في مصر، ليس فقط للهفوات التي ارتكبتها الجماعة والرئيس في ادارة الدولة، بل لأن الاخوان اختاروا خيارا مميتا للتصدي للمرحلة الانتقالية بصورة منفردة، وكلنا يعلم ان المرحلة الانتقالية هي مرحلة الموت لاي طرف سياسي يتصدى لها سواء أكان اسلاميا ام علمانيا، ومصيرها الفشل، نظرا للمشكلات البنيوية العميقة في الاقتصاد والسياسة والمجتمع، يضاف الى ذلك ان الرئيس مرسي لم يكن يحكم فعلا، فالجهاز الاداري للدولة غير منسجم معه والقضاء في حالة معادية، والجيش لا يدين بالولاء له، ومن هنا جاء مفهوم الدولة العميقة التي لا تنسجم مع رؤى الرئيس، يضاف الى ذلك تدخلات المرشد في ادارة الدولة جعلت من مرسي حاكما من دون قرار حقيقي، وجعلت منه شخصية هلامية بلا طعم او لون او رائحة.
الثاني: ان الاخوان اخطأوا استراتيجيا في عدم احتواء جميع القوى والاصرار على المشاركة في الحكم، كما فعل اخوان تونس، لان حالة النجاح كانت ستعزز وجودهم اكثر من القوى المشاركة وبصفها قائدة المشروع، أما في حالة الفشل فانها لن تتحمل لوحدها عبء الفشل بل سيشمل جميع القوى الاخرى وبالتالي فان الجمهور سيلقي اللوم على جميع القوى المشاركة.
الثالث : ان تعتبر هذه الاحداث فرصة لالتقاط الانفاس، ومراجعة الاستراتيجيات، وعدم الابتعاد عن العملية السياسية، فلا يوجد خاسر ابدي او رابح ابدي في الديمقراطيات، فخاسر اليوم هو منتصر في الغد وهكذا.
الرابع: ان خيار الحوار سيعزز من فرص الاخوان اكثر من اي طرف آخر، اما خيار العنف فيجعلها الطرف الخاسر الاكبر، وربما يعرضها الى الحظر أو الحل ولا يتيح لها المشاركة السياسية، ويقضم من مستوى التأييد لها داخليا وخارجيا.
وفي التحليل الاخير، نقول ان هناك تحديات وتهديدات كبرى تفرض نفسها على الساحة المصرية، وعلى القوى السياسية المصرية ان تدرك ذلك، وان يكون هذا مدعاة للانخراط في حوار جدي ينقذ البلاد من ازمتها، اما بقية الخيارات فهي لا تعدوا كونها انتحارا سياسيا ومغامرة بمستقبل مصر ومستقبل اجيالها والمنطقة ككل.
- آخر تحديث :
التعليقات