&
&
&
لنكمل عزيزي القارئ الإجابة على الأسئلة التي طرحناها في الجزء الأول من المقال: كيف سيختار بحكمة الشرق الأوسط العربي، الذي سيحكم نفسه ذاتياً، أن يصبح مفترق طرق عالمياً سلمياً، وشريكاً في العلوم والثقافة والتنمية الإنسانية؟ وهل لفلسفة التعليم المستقبلية دورا مهما في ذلك؟ وللإجابة على هذه الأسئلة سنناقش مقالين غربيين من المجلة الإلكترونية، برجيكت سينديكت، ومقال من الصحافة البحرينية، لشهر ديسمبر الماضي.&
فقد كتب جوردن براون، رئيس وزراء، ووزير المالية البريطاني السابق، بالمجلة الإلكترونية، بروجيكت سينديكت، مقالا بعنوان، التعليم ترياق ضد التطرف، يبين فيه الخطر الذي يتعرض له شباب المنطقة، فيقول: لا يستطيع أي زائر للشرق الأوسط أن يتحاشى الانتباه إلى الفجوة المتزايدة الاتساع بين التطلعات التعليمية، والتجارية، والمهنية لشباب المنطقة، والواقع القاسي الذي يحرم الكثير منهم من مستقبل إيجابي بنّاء. والواقع أن نصف من ينتمون إلى الفئة العمرية من 18 إلى 25 عاماً في الشرق الأوسط عاطلون عن العمل، أو يزاولون أعمالاً ثانوية في بطالة جزئية. وتتفاقم خطورة هذا الوضع بفِعل أزمة اللاجئين العالمية، التي أدت إلى نزوح نحو 30 مليون طفل، منهم ستة ملايين من سوريا وحدها، والأرجح أن قِلة قليلة منهم ربما يعودون إلى ديارهم خلال سنوات عمرهم المدرسية. وليس من المستغرب أن يرى تنظيم داعش، في هذا العدد الهائل من الشباب المحرومين الساخطين القدرة على إيجاد أرض خصبة للتجنيد.&
ويوضح الكاتب الأسباب التي قد تؤدي لتجنيد داعش للشباب المنطقة، فيقول: هناك خيطاً مشتركاً من المشاعر بين المجندين: "السخط المبرر أخلاقيا، والتمرد، والشعور بالاضطهاد، ورفض التكيف". مع إستفادة تنظيم داعش من رغبة الشباب في الإنتماء إلى كيان ذي شأن ويستحق العناء؛ فالجاذبية المثالية التي يتمتع بها تنظيم داعش هي العنصر الأكثر إغراءً في نظر المجندين الجدد. وعلى هذا فإن قليلين قد لا يوافقون على أننا نجد أنفسنا الآن في معركة بين الأجيال للفوز بالقلوب والعقول التي لا يمكن الفوز بها بالسبل العسكرية وحدها. كما يعرض الكاتب العلاج، فيقول: فربما تكون القوة الصارمة قادرة على القضاء على قادة داعش المتشددين. ولكننا في احتياج لإقناع ما يقرب من 200 مليون شاب مسلم، إعلاميا بأن التطرف طريق مسدود حرفيا، فعلينا أن ننتصر في حرب الأفكار، من خلال مؤازرة وتعضيد المساحة الثقافية التي يسميها تنظيم داعش "المنطقة الرمادية"، وهي المساحة التي يستطيع المسلمون وغير المسلمين من خلالها أن يتعايشوا، وأن يكتشفوا قيمهم المشتركة ويتعاونوا. بل أفضل وسيلة طويلة الأمد لمكافحة التطرف هي التعليم. فمثلا في مدينة يافا تقوم مدرسة تديرها كنيسة اسكتلندية بتعليم أطفال مسلمين ويهود ومسيحيين فضائل التسامح. وفي لبنان يجري تدريس مناهج مدرسية مشتركة تناصر التنوع الديني ــ بما في ذلك "رفض أي شكل من أشكال التطرف والعزل الديني أو الطائفي" ــ للأطفال من السُنّة والشيعة والمسيحيين، بدءاً من سن التاسعة. كما أقرت لبنان نظام الفترتين في مدارسها لاستيعاب نحو 200 ألف طفل من اللاجئين السوريين. فالخيار واضح، فأما أن نقف مكتوفي الأيدي، ونشاهد جيلاً جديداً من الشباب المسلمين المخضرمين في استخدام شبكة الإنترنت، وقد غمرتهم ادعاءات كاذبة بأن الإسلام غير قادر على التعايش مع القيم الغربية، أو أن نساعد الشباب في الحصول على تعليم متطور، وعمل مبدع منتج، والفرصة لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من مواهبهم.
كما كتب اندرياس شليشر، مقال بعنوان، التعليم في عالم يكتنفه الغموض، يبين فيه تحديات التعليم في عالمنا الجديد ليقول: كلما ازدادت وتيرة التقدم التكنولوجي، فشل التعليم في مواكبته، مُخَلِفا أعدادا ضخمة من الناس تصارع للتكيف مع عالم سريع التغير، ومُرَسخا لمعاناة واسعة النطاق. واحتاجت السياسية العامة لقرن كامل لتوفر بصعوبة للجميع إمكانية التعليم. وشهدت العقود المنصرمة خطوات ملموسة لتحقيق هذا الطموح في أرجاء العالم. ولكن، في عصر يتجاوز فيه الابتكار التكنولوجي مجددا التعليم، لا يجب الاكتفاء بمضاعفة الجهود الرامية إلى توفير فرص للجميع للتعلم وحسب، وإنما أيضا لاكتسابهم مهارات جديدة، لمواجهة عالم تزداد فيه التقلبات ومظاهر غياب الاستقرار. وتظل جودة التعليم مؤشرا قويا مؤثرا على الدخل القومي على المدى البعيد، ولقد بدأت بلدان كثيرة من ذوي الدخل المنخفض الاستفادة من التعليم في خدمة التنمية الاقتصادية. وكنتيجة لهذا، فمن بين 80 دولة ببيانات قابلة للمقارنة حول جودة التعليم يفسر تباين الأداء 6% من الناتج المحلي الإجمالي للفرد. ولقد نجحت الكثير من البلدان المنتجة للنفط بشكل خاص، في تحويل ثرواتها الطبيعية إلى رأسمال واستهلاك حقيقي، بيد أنها فشلت في بناء "الرأسمال البشري" الذي يمكنه المحافظة في المستقبل على اقتصادياتهم. وإذا سلحت البلدان مرتفعة الدخل من خارج دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية طلابها في أقل تقدير بالمهارات الأساسية جدا، فبوسعهم، كمجموعة، الاستفادة من قيمة اقتصادية مضافة تعادل قرابة خمسة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي الحالي لهم. بل وحتى مع الموارد الطبيعية الغزيرة لدى هذه الدول، تكمن ثروة أكبر جدا في المهارات غير المتطورة لسكانها. فللتعليم تأثير أعمق من مجرد تحسين الدخل أو فرص العمل ببساطة، الأمر الذي يفسر اعتباره أحد عناصر مؤشر التنمية البشرية. وفي كل البلدان ذات البيانات القابلة للمقارنة، يعتبر البالغون من ذوي المهارات التعليمية المتدنية للغاية الأكثر احتمالا للإدراج ضمن صفوف المعتلين صحيا، وهم الأقل ثقة في مواطنيهم، وينظرون إلي أنفسهم بوصفهم مفعولاً بهم ــ أكثر من كونهم فاعلين ــ (مستضعفين) في العملية السياسية. "ومن المستبعد في البلدان التي تفشل في تسليح سكانها بالمهارات اللائقة أن يقود التقدم التكنولوجي إلى نمو اقتصادي،" بل إن قطاعات واسعة من السكان تتعرض لخطر الانحدار إلى هوامش المجتمع. ومع ذلك، من المهم ملاحظة أن التعليم الرسمي لا يكفي وحده لضمان توفر فرص عمل وقدر أكبر من الرفاهية. ففي العديد من الاقتصاديات، يعمل الكثير جدا من الخريجين العاطلين عن العمل، مع عدد كبير من أرباب العمل الذين لا يجدون عمالا بالمهارات التي يتوخونها. فإذا كان على الأفراد والدول مواصلة جني ثمار التعليم، فعلي صانعي السياسة التركيز على المهارات المطلوبة لتحقيق الازدهار في عالم سريع التغير.&
وبين الكاتب المفارقة بين فلسفة التعليم القديمة والحديثة فيقول: لقد اعتمد التعليم في الماضي على نقل المعرفة، أما الآن فيعتمد على تزويد الطلبة بالأدوات اللازمة للإبحار بين موجات عالم يتزايد غموضه وتقلبه. ولسوء الطالع، فإن المهارات الأسهل من حيث تعلمها واختبارها هي أيضا أول المهارات التي يمكن الاستعاضة عنها بالآلات أو استبدالها بمصادر خارجية. وبالتالي فالمعرفة التي تضم آخر ما توصلت إليه العلوم والتكنولوجيا تظل مهمة. بيد أن الاقتصاد الكوكبي لم يعد يكافئ العمال على ما يعرفونه (فجوجل يعرف كل شيء)، "وإنما يكافئهم على ما يمكنهم صنعه"، بما يعرفونه. ويحتاج التعليم إلى: أولا، التركيز على تحسين الكيفية التي يفكر بها الطلاب، والتي يعملون بها، وثانيا، كيفية تبنيهم للتكنولوجيا، وثالثا، التركيز على تزويدهم بالمهارات الاجتماعية، والشعورية اللازمة للتعاون مع الآخرين. وفي الماضي كان المعلمون ينقلون المعرفة بتقسيم المشاكل إلى أجزاء يمكن التحكم فيها ومعالجتها، ومن ثم تعليم الطلاب تقنيات حلها. أما اليوم، فغالبا ما يتم استنباط القيمة بتجميع مقادير ضئيلة متباينة من المعلومات. "ولهذا السبب، يحتاج العمال أكثر من مجرد معرفة تقنية، فعليهم: أولا، &أن يكونوا مشربين بالفضول، وثانيا، أن يكونوا منفتحي العقول، وثالثا، أن يتسلحوا بالقدرة على الربط بين الأفكار التي تبدو غير ذات صلة." وعادة ما كان الطلاب في نظام التعليم التقليدي يعتمدون على أنفسهم، وكان يتم الحكم عليهم فرادى. ولكن مع تقدم التكنولوجيا وإعتماد اقتصادياتها، التي كانت في السابق مستقلة على بعضها بعضا، تزداد أهمية العمل مع الآخرين. "ونادرا ما يكون الابتكار اليوم محصلة عمل أفراد يعملون في عزلة، بل غالبا ما يكون ثمرة تبادل وتعاون." وعلى المدارس إدراج هذا العنصر الجديد في مقرراتها الدراسية، وإعداد طلابها للعمل في مختلف البيئات الثقافية، وفي عالم تُشْكِل قوامه قضايا تتجاوز الحدود الوطنية. ويتمثل جزء من الإجابة السياسية على مشاكل التعليم في تشجيع التعلم القائم على اكتساب المهارات في كل ما يتعلق بحياة العمال، بدلا من التركيز على التعليم الذي ينتهي حين يبدأ العمل. "وتطوير المهارات يصبح أسهل بإدماج التعلم في مكان العمل،" ويسمح هذا أيضا للشباب بتطوير المهارات الصعبة اللازمة للتعامل مع المعدات الحديثة، وبتعلم المهارات السهلة ــ بما في ذلك العمل الجماعي والاتصال والتفاوض ــ عبر تجربة تجري في عالم حقيقي.&
وينهي الكاتب مقاله عن أهمية العمل السياسي في توجيه سوق العمل، فيقول: "ويتمثل وجه آخر مهم من أوجه العمل السياسي في هذا المجال في التدخل النشط في سوق العمل، بما في ذلك تقديم المشورة والمساعدة في البحث عن فرص العمل، وتقديم إعانات لدعم الشباب من ذوي المهارات المنخفضة، ودعم دخل الناس الذي يسعون بجدية للبحث عن فرص عمل. وسيتطلب إعادة تجهيز التعليم ليتناسب مع الاقتصاد الحديث إشراك كل قطاعات المجتمع. وعلى الحكومات تصميم حوافز مالية أكثر ذكاء. وعلى محور نظم التعليم أن يرتكز على روح المبادرة وأن يقدم تدريبا مهنيا أفضل. وعلى أرباب العمل الاستثمار في القوى العاملة، وبوسع نقابات العمل مد يد العون لضمان ترجمة التدريب إلى فرص عمل أفضل. إن التعليم يتحول بشكل متزايد إلى مشروع جماعي، وعلى هذا أن ينعكس في المهارات التي يقدمها للخريجين. ومع ذلك، سيعتمد مستقبل التعليم في نهاية المطاف على الأفراد، وعلى استعدادهم للاستفادة من فرص التعلم، واستثمارهم في بناء مستقبلهم."&
كما &كتبت الصحفية البحرينية القديرة، الأستاذة الفاضلة سوسن الشاعر، بصحيفة الوطن مقالا بعنوان، في التعليم بيننا وبين الأردن، تناقش فيه تحديات تطوير كفاءة التعليم في وطننا العربي فتقول: انتشر فيديو مصور لمؤتمر صحافي لوزير التربية والتعليم الأردني، عقده لتوضيح سياسته التعليمية الجديدة، وهي سياسة صادمة للمجتمع الأردني، لأنها أفرزت عن هبوط في نسبة نجاح الثانوية العامة إلى 41% فقط. فيقول الوزير: "بعد أن أوقفنا الغش، ووحدنا الامتحانات الوطنية، واتخذنا إجراءات صارمة فيما يتعلق بتصحيح العلامات، كانت هذه هي النتيجة. وثانياً أوقفنا توظيف المعلمين عن طريق الخدمة المدنية، لأنه غير مسموح أن تكون وزارة التربية والتعليم مكاناً لتوظيف العاطلين!!" فقد احتاج وزير التربية ألأردني أن يعقد مؤتمراً صحفياً، ويكون مزوداً بحقائق صادمة، تجعل المجتمع مستعداً لتلقي العلاج المر الذي سيبدأ به الوزير. فاستعرض الوزير المستوى المتدني للمخرجات التعليمية بكل وضوح وبكل جرأة، عرض نماذج للإجابات، عرض نماذج للفشل في معرفة الأساسيات. ووضع المجتمع أمام مسؤوليته، وحملهم معه النتائج المستقبلية في حال عدم إجراء جراحة عاجلة، تماماً كالطبيب الذي يصارح المريض بعواقب عدم التزامه بالعلاج ليتحمل هو مسؤولية قراره. إجراءات الوزير لها ضحايا، أولهم من رسب لأنه كان سينجح (بالتساهيل) يشكلون 60% من طلاب السنة النهائية في الثانوية العامة، هؤلاء لن يسكتوا، سيتظلمون وسيصرخون، وسيستعينون بالصحف، وبالنواب، وبالوساطات، كيف يمكن للوزير أن يصمد أمام هذا الضغط؟ ثانياً هؤلاء سيعيدون العام الدراسي، وستزدحم الفصول الدراسية ببقاء 60% كان من المفروض أن يتخرجوا، والآن سيضافون للتلاميذ الجدد، مما سيلقي عبئاً على المدارس والمدرس، وستضج المدارس بالشكوى. كما أن طابور المنتظرين على سلم الوظائف سيزيد، لأن التوظيف كمعلم أصبح صعباً، واشتراطاته كثيرة وشاقة، وتتطلب الموافقة على التدريب قبل التوظيف. واليوم الدراسي سيمدد، وستبدأ الاعتراضات على هذه (اللخبطة) في مواعيد وترتيبات الأسر.&
وتنهي الأخت سوسن الشاعر مقالها بالقول: "هذه بعض النماذج التي يستعد وزير التربية الأردنية لمواجهتها، والصمود أمام ضغوط الصحف والنواب والوساطات. الأردن يعرف كما نعرف نحن أنه ما لم يتطور النظام التعليمي، ليواكب احتياجات السنوات العشر الأخيرة، فإن كل مخططات تنويع مصادر الدخل وزيادة الموارد ستذهب هدراً. والأردن يعرف ونحن معه نعرف أن عملية التطوير هذه عملية جراحية ما لم يكن الجراح جريء وصاحب قرار فإنه سيعجز عن القيام بها. والأردن يعرف ونحن نعرف أن العمليات الجراحية التي لها ضحايا وخصوم لابد أن يستعد لها مسبقاً لتهيئة المريض وتحميله المسؤولية مع الطبيب الجراح، وذلك يتطلب القيام بخطوات استباقية من الحملات الإعلامية والتواصل مع مفاتيح مؤثرة وكسب الصحافة والإعلام مسبقاً، حتى يكون للمشروع أصدقاء يقفون معه في وجه العواصف". ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل سنصلح التعليم لمشروع جماعي يتم في بيئة العمل، ليجمع بين تطوير كيفية التفكير وتحسين التناغم والتعاون واختراع وتصنيع التكنولوجيا، لخلق كفاءات تعلب دورها في تحقيق التنيمة المستدامة، ولنقي شبابنا من أن يكونوا وقود، للصراعات الدموية لخلافات الإمامة والخلافة؟ ولنا لقاء.
&
د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان
&