خلال أمسية رمضانية عقدت مؤخراً وحضرها عدد كبير من المُفكِّرين والكُتَّاب ورؤساء تحرير الصحف الإماراتية والقيادات الإعلامية المحلية والعربية، أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، المسؤولية الضخمة الملقاة على كاهل الإعلام في هذه المرحلة التاريخية باعتباره "خط الدفاع الأول لحماية المكتسبات والمنجزات الحضارية، والمحرك الدافع في اتجاه مزيد من التطوير والبناء، والدرع الواقية من المخاطر والتهديدات التي تتربص بأمتينا العربية والإسلامية"، كما قال سموه.

وأشار صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في كلمته أيضاً إلى أن المنطقة أحوج ما تكون في هذه المرحلة المهمة من تاريخها إلى خطاب إعلامي متوازن، يخلو من المغالاة ويتسم بالاعتدال ويعلي قيم النزاهة والحياد والموضوعية في الطرح والتناول، بعيداً عن المصالح الذاتية والأهداف الشخصية التي قد تنحرف بالإعلام عن مساره القويم ليصبح أداة للفرقة والتردي بدلاً أن يكون حافزاً على العمل والبناء والتقدم. وهذا الموضوع، أي الخطاب الاعلامي، من أبرز الموضوعات والقضايا التي تشغل بالي بحكم أهمية دور الاعلام وتأثيره المجتمعي الهائل، فضلا عن أن غياب البوصلة الاعلامية في كثير من الحالات يتسبب في خسائر باهظة للأوطان والشعوب والأمم، فهناك تدمير أو تفتيت لأجزاء من منظومات القيم والأخلاق الاجتماعية بدعوى رفع سقف الحريات وتفكيك جدار الصمت والاستجابة لتوجهات واحتياجات الأجيال الجديدة من الشباب، وغير ذلك من مبررات واهية ترتكب باسمها الكثير مما يمكن أن يطلق عليه جرائم أخلاقية ووطنية.

أحياناً كثيرة يشعر المرء بأن بعض وسائل الاعلام تسعى إلى الفرقة وتهوى غرس الانقسامات ونشرها وتوسيع دائرتها، وهذا وارد بل يعتبر هدفاً مؤكداً غير قابل للشك في بعض حالات الصراع والأزمات والحروب التي يستخدم فيها الاعلام بشراسة كرأس حربة توازي في فاعليتها وتأثيرها القوة التدميرية لأشد الأسلحة التقليدية وغير التقليدية فتكاً وتدميراً.

ركز صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في حديثه للاعلاميين على فكرة مهمة هي دخول الاعلام كل بيت، ومخاطبة الصغير والكبير، كما حذر من تراجع دور الاعلام الواعي معتبراً أن تواري هذا الدور يسهم في ايجاد حالة من الفراغ الفكري التي تستغلها القوى الظلامية وتنظيمات الارهاب، والمؤكد أن هذه "الوصايا" هي نتاج قلق حقيقي على مستقبل دولنا العربية وشعوبها، التي تتعرض لأسوأ وأصعب اختبار تاريخي يهدد هويتها وأمنها واستقرارها منذ عقود طويلة مضت.

إحدى الاشكاليات التي تعانيها معظم دولنا العربية في الوقت الراهن تكمن في تأخر إدراك أهمية الاعلام ودوره الخطير في بناء الوعي الجمعي للشعوب، حيث عاشت بعض الدول العربية سنوات طويلة نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين في ظل قناعات زائفة بأن وسائل الاعلام التقليدية مجرد "تسلية" وملهاة للشعوب، وأنه مجرد أداة لتنفيس الغضب وتخفيف الضغوط عن الحكومات. والأخطر من ذلك أن هذا الأمر قد توازي مع عدم انتباه أو إدراك لدور وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر) في تحريك الجماهير وحشدها وراء أهداف سياسية أو اجتماعية أو غيرها، حيث فشل الكثيرون في تقدير حجم التأثير المتوقع لهذه الوسائل، فكانت النتيجة جراء ذلك كله هو هذا الكم الهائل من الاضطراب والفوضى المتفشية في مناطق كثيرة من عالمنا العربي.

عقب هذه الفوضى انتبه الجميع إلى خطورة الاعلام وتأثيراته المجتمعية والسياسية، ما تسبب في اندفاع الكل نحو استخدام الاعلام وتوظيفه لتحقيق أغراضه السياسية والمجتمعية، فاختلطت الأوراق في كثير من الحالات وغابت البوصلة أيضاً عن الاعلام وانخرطت كثير من وسائله في صراعات مذهبية وطائفية وسياسية لا تعطي للأوطان ولا الشعوب وامنها ومصالحها أي قدر أو اعتبار.

المخرج من ذلك هو كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، في توازن الخطاب الاعلامي ووضع مصالح الاوطان والدول والشعوب فوق أي اعتبار، وإعلاء قيم الوطنية والولاء والانتماء، فالتوازن الاعلامي كفيل ببناء صور صحيحة أو دقيقة عن الواقع المعاش.

هناك أيضاً معارك يغيب عنها الاعلام العربي، وإن دخلها وشارك فيها، فعلى استحياء أو عبر أدوات ومداخل لا تحقق النتائج المطلوبة وربما يصب بعضها في سلة مصالح الأعداء، وفي مقدمة ذلك تأتي معركة الارهاب، التي يتناولها الاعلام العربي كمتفرج أو مراقب في أفضل الأحوال من دون إدراك لدوره واستغلال لأدواته وتأثيره المجتمعي الهائل.

وإذا كان شهر رمضان المبارك هو الشهر الأثير لدى معظم وسائل الاعلام العربية من حيث تقديم البرامج وغيرها، فمن النادر مثلاً أن تجد فكرة جاذبة لبرنامج يستهدف بناء الوعي الجمعي حول خطر الارهاب ويعمل على نبذ الفكر المتطرف وترسيخ الاعتدال والوسطية، وقد لا تجد في ذلك سوى البرامج الكلامية المباشرة، التي لم يعد يتناسب أغلبها مع معايير التنافسية الاعلامية في الوقت الراهن.

الاعلام أحد أخطر الأدوات لمن يسعى إلى انتشال المنطقة العربية وانقاذها من كابوس الارهاب الذي يطاردها ويكاد يقضي على مستقبل ملايين الشباب من الأجيال الجديدة التي تتطلع إلى غد أفضل، فهل نستجيب لنداءات إصلاح وتقويم هذه القطاع الحيوي؟.