&

بعد ست سنوات من القطيعة "المفتعلة" بين تركيا وإسرائيل، قرر البلدان طي الصفحة وفتح واحدة جديدة، بعد مفاوضات وزيارات علنية ولقاءات سرية في أكثر من عاصمة، وواضح في الاتفاق المبرم بينهما، أن المفاوض الإسرائيلي نجح في انتزاع تنازلات تركية، مُعتمداً على واقع حكومة أردوغان، التي تعيش أجواء عزلة إقليمية ودولية. وقد حصلت أنقره بموجب الاتفاق على اعتذار، وتعويض بملايين الدولارات، عن حادثة سفينة مرمره، وأقنعت إسرائيل بمواصلة علاقاتها مع حماس، لكنها تعهدت بتوظيف هذه العلاقات، للحد من جموح الحركة ولجم تفلتاتها.

تركيا تُراهن على أن الاتفاق سيُفضي إلى تطوير علاقاتها الاقتصادية مع إسرائيل، وعلى فرص الاستفادة من نفط المتوسط وغازه، لكن المهم عندها اليوم منع إقامة كيان كردي عند حدودها مع سوريا بكل الوسائل، بما فيها تطبيع وتطوير علاقاتها مع "أعداء الأمس"، ابتداءً بموسكو ومروراً باسرائيل وليس انتها بإيران وسوريا، والأخطر هو تجاوز مفهوم التطبيع ألى التفاهم على حلف استراتيجي، لمواجهة المستجدات في المنطقة وخصوصاً في سوريا، والتدخا أكثر في الشأن السوري لمنع طهران من السيطرة على سوريا، إضافة لمساعدة الاستخبارات التركية لإسرائيل في كشف خلايا ونشاطات حزب الله وغيره من المنظمات والفصائل الفلسطينية.

الخاسر الأكبر من سياسة أردوغان المتأسلمون، بعد رهانهم البائس على إحياء خلافة العثمانيين، الذين سعى خليفتهم المنتظر للمناورة في ملف القضية الفلسطينية، ليقبل أخيراً بثلاثين من الفضة الاسرائيلية، ويذهب صاغراً طالباً السماح من قيصر الكرملين، بعد أن أخذته العزة بالإثم، حين أسقط انكشاريوه طائرة روسية، لكنه أدرك متأخرا أن الله حق، فاعتذر مُعبراً عن تعاطفه وتعازيه الحارة لعائلة الطيار الروسي القتيل، وشدد أن أنقرة لم ترغب أبداً، ولم تكن لديها النية لإسقاط الطائرة الروسية، وأن روسيا بالنسبة لتركيا صديق وشريك استراتيجي.

السلطة الفاسطينية أذكى من ابتلاع طعم الاتفاقية، وهي تدرك أنها سترسخ الانقسام، وأن المستفيد الوحيد هو إسرائيل، وحزب أردوغان الذي تجاهل كافة الأعراف الدبلوماسية، وتلك المتبعة بين الأصدقاء، ووضع معادلة إعادة بناء القطاع، مقابل استمرار الانقسام، ضرب كافة جهود المصالحة الفلسطينية. وتدرك قيادة السلطة أن الظروف السياسية إقليمياً وداخلياً هي التي دفعت القيادة التركية للتوصل إلى هذا الاتفاق، بعيداً عن شعاراتها الرنانة، بأنها لن تقبل مقابل جريمة مرمره بأقل من رفع الحصار عن قطاع غزة بالكامل، وإذا كان السلطان العثماني يريد إخراج بلاده من عزلتها الدولية، فقد كان الأحرى به دراسة الأسباب التي لاتتعدى سياساته الهوجاء، بدل اللهاث وراء إسرائيل للتوصل إلى اتفاق هزيل ومذل، يعرف الغزيون برغم تهليل حماس أنه ليس أكثر من خدعة سياسية بذيئة وبغيضة.

واضح أنه لم يعُد بمقدو أردوغان مواصلة بازار المزايدة الذي افتتحته بعد "مرمره"، حتى بدا بشعاراته وكأنه اكثر حرصاً من الفلسطينيين على قضيتهم، لكن المدقق في حيثيات تلك "الهمروجة" يكتشف بسهولة أنها قابلة للتراجع، رغم أنها لقيت قبولاً لدى المتأسلمين، الحالمين ببزوغ نجم دولة الخلافة، أردوغانية كانت أم داعشية، وأن السلطان العثماني سيقود جحافل المؤمنين إلى تحرير القدس، وليس مجرد كسر الحصار عن غزة، وإذ يتراجع مؤيدو أردوغان، تحت مزاعم أنه ليس مطلوباً من الأتراك أن يكونوا عرباً اكثر من العرب، فإننا نسألهم لماذا اصّر حكام انقرة على إلباس المسألة لبوس الإسلام، باعثين نفحة من الأمل الكاذب عند الغزيين، بأن أخوّتهم الإسلامية لن تسمح بخذلانهم، وأن أنقرة لن تتخلى عنهم؟، وأليس الاتفاق مدعاة لاعتراف عُشّاق أردوغان، بأن حكاية فك الحصار كانت مجرد ذريعة لتحقيق أهداف سياسية، ونكاية بالنظام المصري، بعد إطاحته حكم الاخوان المسلمين، وإفشاله مخططات أسلمة المنطقة، لصالح مشروع تقسيمها على أسس دينية ومذهبية، تُعطي إسرائيل الحق الكامل بتنفيذ مشروعها الجهنمي "يهودية الدولة".

يجمع تركيا واسرائيل اليوم، البحث عن أصدقاء جدد وإضافيين في المنطقة، بعد الشرخ العميق الذي حطم مبدأ صفر مشاكل مع الجيران، الذي سعت أنقرة لتحقيقه، لكن الصحيح أيضاً أن مكانة إسرائيل لاتمنحها دوراً في مصالحة تركيا ومصر أو روسيا، كما لا يمكن لتركيا أن تُقرّب السعودية من إسرائيل، ولكن للدولتين مصلحة مشتركة، تتجاوز رغبة إسرائيل في بيع الغاز لتركيا، والجهد التركي لتنويع مصادر توريد الغاز، وبشكل خاص تخفيف اعتمادها على روسيا، كلتاهما مهددتان من الحرب في سوريا، ولهما مصلحة كبيرة في التأثير على مستقبلها، ومن المهم التذكير بان هذا ليس اتفاق سلام بين دولتين معاديتين، بقدر ما هو اتفاق&لإعادة بناء ورفع مستوى العلاقات بين الدولتين، الطامحتين لدور قيادي في المنطقة.

وبعد، أليس من حقنا سؤال حماس عن سبب قبولها اليوم، ما كانت رفضته سابقاً، عند عرضه عليها من أطراف إقليمية ودولية، ولماذا تصدر بياناً تشيد فيه بدور تركيا في رفع الحصار عن غزة، في حين يستمر الحصار البحري الإسرائيلي للقطاع، أم أنها بروبغندا أردوغان، الذي كان يعدنا بتحرير فلسطين، ويناور لوضع إصبعه النجسة في ملف الحفاظ على الأقصى ورعايته، وهل هناك من مبرر لاستمرار حملة التطبيل والتهليل للرجل وتجربته، وهل ننتظر طويلاً قبل أن يقوم "الأخ رجب" بزيارة غزة، ليهتف له أنصار حماس عندما يصل قادماً من تل أبيب.

&