&

عندما ندرس التغير الاجتماعي في العالم، نجد أن هناك ثباتا في معظم الدول المتقدمة على نوع التفكير والثقافة السائدة منذ قرون، ولكننا في العالم العربي لا نثبت على حال، فنحن نتأرجح كثيرا بين المعتقدات والقناعات والتيارات الفكرية، وتتداخل السياسة كثيرا مع الثقافة السائدة، وتتغير الثقافة حسب التغيرات السياسية، وهذا أمر غير مألوف، فالأصل أن الثقافة هي التي تحدد المسار السياسي وليس العكس. إذ أن المجتمعات تمر في مرحلة الطفولة الثقافية وتنمو وعندما تنضج وتبلغ سن الرشد الثقافي، تحدد مسارها وتثبت عليه، فما بالنا نتلون حسب التأثيرات السياسية ولا يثبت تفكيرنا على حال وثقافتنا هلامية لا شكل لها وكل يوم في حال؟

ما كنت أحسب أننا سنصل إلى هذا الحد، فقد كنا نظن أننا وصلنا آماد بعيدة، وأنجزنا الكثير، وكان ذلك في عنفوان الشباب حيث كنا نختلف آيدولوجيا ونتجادل ونظن أنه بالمثابرة والعمل، سنجد لنا مكانا على الأرض، وفجأة انتشروا، بلحاهم وجلبابيهم، وأشهروا عصيهم فرجعنا إلى الخلف واختبأنا، كان ذلك ردا على الثورة الإسلامية في ايران، واستجابة لإيعازات أمريكية، فصار الذي كنا نكلمه بعفوية وبراءة، يرمقنا بنظرات وضيعة، فهرعنا إلى الجلابيب، ونحن نعلم، على الرغم من صغر السن والغرارة، أن التغيرات حدثت فجأة وبفعل فاعل، ليصبح العام خاصا، والموضوعي شخصيا، حتى تغيرت طريقة لباسنا وحديثا وأكلنا وشربنا. وصار الرجل يتعرض لنقد أصدقائه إذا كانت ابنته أو أخته سافرات أو كان أخوه يسمع أغاني أم كلثوم. ثم تبخرت الأحلام، ونضممنا إلى القطيع.

وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فصدرت التعليمات بضرورة مسح البرمجة السابقة وإطلاق الحريات و "حوار الحضارات والأديان" فبدأت الحكومات تضيق الخناق على الإسلاميين، فتراجعوا قليلا "تكتيكيا" وصرنا نرى ما لم نكن نراه من قبل من سفور وأغان وأفلام وانترنت ومقاهي واختلاط بين الجنسين. فصار المجتمع هجينا لا يسير على هدى سوى هدي أمريكا ورغباتها، أما من كان يبعد في التفكير، فانتهى به المطاف إلى حالة من الضياع، بسبب المتناقضات والتغيرات السريعة، التي تحدث دون أن يكون لهذا المسكين رأي أو موقف، وقد اختار الكثير من الشباب الهجرة للنجاة من هذا التلاعب وبحثا عن السلام والمصالحة من النفس.

ثم قررت أمريكا إعادة رسم خريطة المنطقة، وبدأت باحتلال العراق وتابعت إلى بقية الدول العربية، فشرعت الأبواب للجهاديين السنة والميليشيات الشيعية، وانقلب الصراع إلى صراع طائفي، يفتك بالمئات يوميا، وبرمجت الشعوب من جديد، فانقسموا إلى قسمين: سني وشيعي، ولا تزال آلة الموت تعرك الناس وتجهز عليهم. وأينما اتجهت الأنظار فثمة من ينوح ويتفجع على موتاه.

إذن، نحن لم نصل بعد إلى قرار حول ماهية الثقافة التي نريدها، ونسير حسب التوجيهات الخارجية، فمرة نؤمر بالتشدد الديني، ومرة نؤمر بالتسامح ومرة نؤمر بالدفاع عن الطائفة وقتل الطائفة الأخرى، ونحن الحالة الوحيدة في الكون التي ترتبط فيها الثقافة السائدة بالمصالح السياسية الخارجية، لذا تبقى في حالة تقلب

وصراع مستمرين. بينما كل شعوب الأرض ترسخ الثقافة أولا ومن ثم تتحرك لرسم مسارها السياسي، ومهما تغير المسار السياسي، تبقى الثقافة ثابتة، وحتى لو تغيرت فلا يستغرق الأمر وقتا طويلا لعودتها إلى الاستقرار. فقد انتقلت دول من المعسكر الشيوعي إلى الرأسمالي، لكنها ما لبثت أن استقرت وتفرغت للعمل والبناء. أما نحن، فننتقل من ثقافة إلى أخرى حسب محركات خارجية، وأكاد أجزم اليوم أنه إذا غيرت أمريكا رأيها وارتأت ضرورة إعادة البلاد إلى نظام إقطاعي فإننا سنسارع لتنفيذ رغبتها ونقتتل إلى ما شاء الله.

أهي علة فينا؟ وأين يكمن الخلل؟ فقد طال أمد الصراع ونحن غير قادرين على الثبات على رؤية مشتركة حول ماذا نريد أن نكون. فقد غيرنا لوننا من حقبة لأخرى، واتسعت الفجوة بين الآباء والأبناء، فلم يعد بمقدور الأب أن يوجه ابنه إلى مسار فكري معين، لأن الابن تغيرت برمجته واستقى أفكارا مختلفة، صحيح أن هناك فجوة بين الأجيال لكن ما بين الأجيال في بلادنا ليس مجرد فجوة بل هي قطيعة، وعلى الآباء أن يتابعوا الأخبار وما يحدث في أمريكا لكي يعرفوا كيف يفكر أبناؤهم، وما هي التوجهات العامة في المجتمع وإلى أين يتجه مؤشر الثقافة المطلوبة في تلك المرحلة.