وصلت مجموعة من البحارة البرتغاليين إلى السواحل اليابانية في القرن السادس عشر، بعد أن تحطمت سفينتهم، بسبب الطوفان، وهم في طريقهم إلى الصين. وقد كتب أحدهم في مذكراته، بأنه حينما وصل إلى اليابان، وجد بأنها بلد ممزقة بالحروب الأهلية. وفي عام 1543 وصلت سفينة برتغالية إلى شواطئ مدينة نجازاكي اليابانية، لتبدأ مرحلة جديدة للتجارة بين البلدين، وقد قوى ذلك الوجود البرتغالي في اليابان، وخاصة بعد أن دعم البرتغاليون زعيم الديميو سوميتادا في الرد على اعتداء قبيلة ريوزوجي، على ميناء كيوشو في عام 1578. وقد أهتم الزعماء اليابانيون بالأسلحة النارية البرتغالية، وخاصة حينما كانت اليابان مشغولة بحروب أهلية مدمرة، في فترة السنجوكو. حيث أستخدم الزعيم "أودو نوبوناجا"، في عملية توحيده لليابان، الأسلحة النارية في معركة ناجاشينو، بل استطاع اليابانيون خلال سنة واحدة انتاج هذه الأسلحة بكمية كبيرة، وليصبح الجيش الياباني خلال خمسين عام، جيش يضاهي جيوش أوروبا. كما كانت هذه الأسلحة النارية مهمة جدا لتكملة توحيد اليابان تحت زعامة "تويوتومي هيديوشي"، و "توجوجاوا إياسو". وقد يتساءل القارئ العزيز: كيف يمكن أن نصدق بأن يابان القرن الحادي والعشرين، يابان السلام والتناغم والأدب والاحترام، والبساطة والتواضع، والأمانة والصدق، والواجب والانضباط، والعمل المنتج والمبدع والوقت المقدس، والعلوم والتقدم والتكنولوجيا، والتطور الاقتصادي والأمن الاجتماعي الشامل، كانت في حروب أهلية في القرن السادس عشر؟ ما الذي غير اليابان بهذه الدرجة؟ وهل يمكن أن تستفيد شعوب منطقتنا من هذه التجربة، بعد أن دمر التعصب الأيديولوجي والثيوقراطي تنميتها المستدامة؟ وهل يحتاج حل معضلات الشرق الأوسط علاج "فقط" التعصب الطائفي الديني، أم "أيضا" التعصب الإيديولوجي القومي، والتعصب الإيديولوجي الاشتراكي، والتعصب الإيديولوجي الشيوعي، والتعصب الإيديولوجي العرقي؟ وهل ستنتهي المعضلة بفصل الدين عن السياسة، أم فصل خطباء المنابر عن السياسة؟ أم المعضلة أكبر من كل ذلك؟ هل هي في الفكر الدكتاتوري أو الديمقراطي، أم في الفكر الأبيض أو الأسود، أم الفكر المطلق أو النسبي؟ هل هي في فكر المؤمن والكافر، فكر الحق والباطل، أم في فكر الحقيقية أو اللاحقيقة؟ أم هي في فكر الأنا أو نحن، فكر ألعنجهية أو البساطة، أم فكر الإفراط أو التقشف، أم فكر الغرور أو التواضع؟ أم في الفكر المتعطش للكأس المليء؟ وبعبارة تاريخية مختصرة، هل هي في فكر "نحن قوم لا توسط بيننا لنا الصدر بين العالمين أو القبر"؟
&
وانا أفكر في جميع هذه الأسئلة، وصلتني رسالة إلكترونية من شبكة "فري دكشنري"، لتضم هذه الرسالة كلمة باللغة الإنكليزية، وهي كلمة "مونومانيا"، وحينما حاولت معرفة ترجمتها، وفهم معناها، وجدتها مادة للنقاش في مقال اليوم. وتعني هذه الكلمة باختصار شديد، "الرغبة الجامحة والمتزمتة والمتعصبة في الإيمان المطلق والثابت والغير المتغير بفكر أيديولوجي ما"، وبمعنى آخر هي فكرة عقل يضم الياف عصبية، ترسل إشارات بطريق واحد، لا بطريقين، عقل منعزل انطوائي يرسل اعتقاده المطلق الجامح، ولكن لا يستقبل، أو لا يقبل أي صدى مجتمعي أو تاريخي لرد الفعل على هذه الفكرة، لكي تتناغم وتتفاعل وتتطور مع الواقع المجتمعي وبيئته وظروفه ودروس تاريخه. لأن التطور المجتمعي يحتاج لتمازج الأفكار، في بوتقة مجتمعية، لكي تتفاعل وتتناغم، ليطفو على سطحها فكرة تناغمية مبدعة، بل وليتصور كل فرد من افراد المجتمع، وكأن هذه الفكرة هي فكرته، ليدافع عنها، ولكي يعمل على تطبيقها بانضباط وتعاون وتجانس، وهذا ما يمكن ان نسميه بالممارسة العملية للديمقراطية. وبذلك قد نستطيع ان نعبر عن معضلة الشرق الأوسط اليوم، بكلمة واحدة، "المونومانيا". فلو راجعنا الواقع السياسي الشرق اوسطي بعد الحرب العالمية الثانية، وأرجو ان لا ينفعل القارئ العزيز من نقاشي هذا، فأنه ليس للإهانة والإسائة، بل للتحليل والتشخيص، في مرحلة تاريخية شرق أوسطية معقدة ومتشابكة ومؤلمة، ولنبدأ بالناصرية وحركة القوميين العرب، ولننتقل للبعث وحركة الاشتراكيين القوميين، ومن ثم إلى الشيوعية والحركة الماركسية العربية، ومن ثم لحركات الإسلام السياسي، بجميع أطيافه المتعددة، وتناقضاته المتشعبه. فلنجد بان جميع هذه الايديولوجيات استمرت مطلقة حادة متشددة وجامحة، لم تراجع وتقيم نفسها، ولم تتفاعل ولم تتناغم مع مجتمعاتها، ولم تعالج التحديات التي واجهتها بصدق، ولم تتطور مع الوقت، بل تحجرت وتكلست جميعها في فكر ديكتاتوري شرق أوسطي مضطهد، مع أن القومية والماركسية والمسيحية والشيوعية والنازية والفاشستية العالمية، اصطدمت وتفاعلت وتطورت مع تحديات الواقع. فأين الشيوعية الماوية من الصين الرائدة اليوم؟ وأين شيوعية لينين من روسيا العصرية اليوم؟ وأين الثيوقراطية المسيحية من الأحزاب الديمقراطية المسيحية اليوم؟ وأين النازية من ألمانيا الإبداع اليوم؟ وأين الفاشستية من إيطاليا السعادة اليوم؟
&
فيؤسفني أن أقول هناك تفاعل وتناغم وتطور في الفكر الإيديولوجي في جميع مناطق العالم، إلا منطقة الشرق الأوسط، وكأن هناك داء عقلي شرق أوسطي، يجمع تحت ظاهرة اجتماعية فكرية، لنسميها "المونومانيا". وقد أثبتت جميع تجارب المنطقة بفشل هذه الظاهرة الإيديولوجية الفكرية، فلا نحتاج نقاش لما انتهت به الناصرية من هزيمة للعرب في عام 1967، ولا البعثية من دكتاتورية مدمرة للعراق وسوريا في الألفية الثالثة، ولا الإسلام السياسي بعد ما سمي بانتفاضات الربيع العربي، بينما تبقى مصيبتنا مستمرة مع وكلاء النظام الثيوقراطي الإيراني، الذي استمر مقاوم ومدمر للثورة الخضراء الإيرانية ولإيران حتى يومنا هذا. وقد يكون هناك شذوذ عن ظاهرة "المونومانيا" في منطقة الشرق الأوسط مؤخرا، ببروز ظاهرة جديدة في تونس، بعد أن حاول حزب النهضة التونسي الاستفادة من تجارب اخطائه، وتوجهه نحو مفهوم حزب المسلمين الديمقراطيين.
&
فلنراجع مرة أخرى ما كتبه بمجلة، فورين افيرز، الأستاذ راشد الغنوشي، ليقول: "لقد أعلن حزب النهضة مجموعة من التغيرات، تتمثل في قراره بالتركيز على السياسة فقط، وترك النشاطات الاجتماعية والتعليمية والثقافية والدينية. فقد تجنب الحزب في السنوات الأخيرة هذه النشاطات تدريجيا، اعترافا منه بأنه يجب أن تهتم بها مؤسسات المجتمع المدني المستقلة عن السياسة الحزبية. وبذلك لن تتحمل عناصر حزب النهضة المسئوليات المتعلقة بالوعظ والإرشاد في المساجد، ولا قيادة الجمعيات المدنية المجتمعية، كالجمعيات الدينية والخيرية. فهدفنا فصل اختصاص السياسة عن اختصاص الدين، كما نعتقد بانه لا يستطيع أي حزب سياسي، بل لا يحق لأي حزب سياسي أن يمثل الدين، بل يجب أن تدار القضايا الدينية من قبل مؤسسات مستقلة ومحايدة. وببساطة شديدة، يجب ان يكون الدين موضوع غير حزبي، بل نريد المسجد لأن يكون مكان يجمع تناغم أبناء الوطن، لا مكان للفرقة والطائفية. كما يجب ألا يكون لرجل الدين أي موقع في الجمعيات السياسية، بل يجب ان يتم تدريبه كمتخصص في مجال الدين، لكي يجمع بين المهارات والثقة التي يحظى بها علماء الدين الأفاضل. فحاليا هناك فقط 7% من رجال الدين في تونس، حصلوا على هذا النوع من التدريب الديني المتخصص. كما وافق مؤتمر حزب النهضة أيضا على استراتيجية شاملة.. تضم ضمنيا الإدارة الجيدة في المؤسسات الدينية. وعلينا أن نتفهم اليوم بأن حزب النهضة ليس حركة إسلامية، بل حزب المسلمين الديمقراطيين، لكي نعمل على خلق حلول للمشاكل الحياتية الاقتصادية اليومية التي يوجهها التونسيين، بدل الوعظ والإرشاد عن الآخرة.. وحسب الدستور الجديد، جميع التونسيين يتمتعون حقوق مشتركة بمختلف عقائدهم، كما ان فصل الدين عن السياسة سيقي من تلاعب مسئولي السلطة باستخدام الدين ضد المواطنين، وسيحقق للمؤسسات الدينية استقلاليتها. وأيضا سيساعد فصل الدين عن السياسة في معالجة الإرهاب.. كما ان فصل الدين عن السياسة، مع الإدارة الفعالة للمؤسسات الدينية، ستسهل تعليم ديني أفضل، وسيقدم تفكير إسلامي معتدل لتونس."
&
وقد يتساءل البعض: هل فعلا استفاد حزب النهضة التونسي من فهم ظاهرة "المونونومانيا" الشرق أوسطية، لذلك قرر ان يراجع أخطاء الماضي، ويستفيد من تجارب تفاعلها مع التاريخ، لخلق تناغم متناسق بين تجارب الماضي ودروسه، وحقائق المستقبل وتحدياته؟ وهنا لا نريد ان نبسط حقائق الارهاصات السياسية، والتحول التدريجي الإصلاحي للأنظمة الديمقراطية، وقد تكون لنا عبرة لما تمر بها من إرهاصات سياسية معقدة الأحزاب الديمقراطية الأمريكية والأوروبية. ولنعرض أمثلة حية لما تعيشه الولايات المتحدة من تحديات لديمقراطيتها، في مرحلة الانتخابات الرئاسية، لتبين مدى الانتهازية النسبية للسياسة، وعدم تمكن مزج نجاستها النسبية بروحانية الدين المطلقة. وأرجو الا يفهم بأن استخدام كلمة الانتهازية النسبية هي إهانة للسياسة أو السياسيين، بل تعني بان رجل السياسة عليه ان يبتعد عن الحقائق المطلقة، والتي ليس لها وجود أصلا في السياسة. بل على السياسي ان ينتهز أية فرصة نسبية ممكنة من التناغم للتعامل مع المعارضين، لكي يحقق لمنتخبيه نصف الكأس المليء، وليس الكأس المليء، لأن الطرف الاخر له حق أيضا في النصف الآخر من الكأس، ولكي يحقق "تدريجيا" لوطنه، ولجميع مواطني بلده، وليس فقط "لطائفته"، تنمية مستدامه. ولنعرض هنا مقالين من الصحافة الأمريكية.
&
لقد بداء صراع شديد في تنافس الحزبين الجمهوري والديمقراطي، على كرسي الرئاسة، وعلى مقاعد الكونجرس، وعلى مراكز حكام الولايات الأمريكية المختلفة، وقد نتسائل هل سيكون هذا الصراع الانتخابي على النمط "المونومانيا" الشرق الأوسطي، صراع انفعالي على ايديولوجيات نمطية متحجرة ومطلقة، أم سيكون صراع واقعي اقتصادي متغير ونسبي، لتوفير لقمة العيش وتحقيق التنمية المستدامه؟ فقد كتبت ماجي سفرن، بالتعاون مع كيفن روبيلارد، بصحيفة البوليتيكو، الإلكترونية الأميركية، مقال بعنوان، يتوجه الديمقراطيون نحو اليمين بينما يتوجه حزبهم نحو اليسار، تقول: "يتراكض الديمقراطيون كلبراليين، للمحافظة على البيت الأبيض، ونزع المجلس النيابي من المحافظين، ولكن حينما يحاولون زيادة حكام الولايات الديمقراطيين، فيلبسون ثوب اليمين الجمهوري، لينادوا بحقوق الأسلحة، والتقشف المالي الحكومي، والمحافظة على القيم المحافظة، وحتى محاكمة إدارة أوباما وانتقاد هيلاري كلينتون. فيحاول الديمقراطيون نزع الولايات الجمهورية من الحزب الجمهوري، ومع ان شعبية دونالد ترامب منخفضة على المستوى العام، ولكن تبقي شعبيته قوية في الولايات الحمراء الجمهورية، لذلك يحتاج مرشحو الحزب الديمقراطي في انتخابات الولايات، للإيديولوجية المحافظة للحزب الجمهوري، للفوز بثمان عشرة ولاية إضافية. فمثلا، يقول جيم جستس، ميلياردير تجارة الفحم، في ولاية وست فرجينيا، وهو مرشح الحزب الديمقراطي كحاكم للولاية، ما يقوله بالضبط منافسه من الحزب الجمهوري المحافظ، ميتشل ماكدونال، فيقول: "انا لا يمكن ابدا ان ادعم هيلاري كلنتون في موقفها من طاقة الفحم، لأنها خاطئة جدا على مختلف المستويات." كما صرح كريس كوستر الجمهوري، الذي تحول لعضو في الحزب الديمقراطي، ليرشح نفسه لحاكم ولاية ميسوري، فيقول: "لقد سجلت دعم متميز من رابطة السلاح الوطنية سابقا. كما أني موافق على محاكمة الرئيس الديمقراطي أوباما، على بعض الأنظمة الفيدرالية التي تضر بمصالح مواطني ولاية ميسوري." وذلك بالرغم من ان حزبه الديمقراطي، يحارب حقوق حمل السلاح. ويقول جون جريج، المنافس لانتخابات حاكم ولاية انديانا، والذي مهتم في حملته الانتخابية بالتربية المحافظة والتعليم، مع انه ممثل للحزب الديمقراطي الليبرالي: "الديمقراطيون يتنافسون على المستوى الفيدرالي للفوز بالرئاسة الأمريكية، اما أنا فأنافس على مستوى الولاية، للفوز بحكم ولاية انديانا." في حين تختلف طبيعة الصراع الانتخابي على المجلس النيابي، والتي تتماشى مع طبيعة الصراع الانتخابي على انتخابات الرئاسة الأميركية، حيث على الديمقراطيين دعم الخط الديمقراطي اللبرالي، ومرشحتهم الديمقراطية هيلاري كلينتون.
&
كما كتب أوستن رايت مع زميله جيرمي هريب، عن موضوع، دعم الصناعة الدفاعية العسكرية لكلينتون، بدل الدعم التقليدي للجمهوريين، ليقول: "لمدة عقود طويلة، دعم مقاولو صناعة الدفاع الأمريكية، المرشح الجمهوري، بينما يدعمون هذه السنة هيلاري كلينتون، فهي متقدمة على دونالد ترامب بفارق اثنين لواحد في التبرعات من العاملين بصناعة الدفاع، كشريكتا لوكهيد مارتن، وجنرال داينامك، وذلك عكس عام 2012، حينما دفعوا أكثر لمرشح الجمهوريين، مت رومني، بدل أوباما. بل يختلف هذا العام عن العشرة الانتخابات الماضية، حينما دعمت الصناعية الدفاعية الحزب الجمهوري ما عدا في عام 2008 وعام 2010، حينما دعموا الحزب الديموقراطي. وقد تبرع عمال الصناعة الدفاعية خلال الثلاثة أشهر الماضية، لحملة السيدة كلنتون، بثلاثة وتسعين ألف دولار، بينما تبرعوا لحملة دونالد ترامب، بستة وأربعين ألف، وذلك لاعتقادهم بان كلنتون ستفوز ببساطة، ومع قلقهم من سياسات دونالد ترامب المتذبذبة. وتقول لندا هودسون، العاملة بشركة بي. أيه. أي. الدفاعية: "هذه أول مرة يخيفني شخص، لو فاز بالرئاسة الأميركية، لذلك تبرعت بخمسة آلاف وأربعمائة دولار لحملة السيدة كلنتون، بينما تبرعت سابقا للحزبين حسب دعم المرشح للصناعة الدفاعية." فبنسبة لهذه السيدة، الصناعة الدفاعية هي مستقبل حياتها ومستقبل أطفالها، ولو خسرت هذه الصناعة، لفقدت وظيفتها وجاعوا أطفالها، فببساطة شديدة ستدعم هذه السيدة وستتبرع للحزب الذي يضمن بقاء وظيفتها في الصناعة الدفاعية، وبلا "مونومانيا"، وبلا أيديولوجيات شرق أوسطية كاذبة. ولنا لقاء.
&
سفير مملكة البحرين في اليابان

&