في مرحلة بعد ما بعد الحداثة الكل دخل لمرحلة الشَّك الديكارتي بخصوص الجّائحة الكورونيّة. تُسهم الطّروحات الهامّة في إعادة كوكبة العقل إلى تعضيد شكل جديد من الأفكار عبر دحر الخطاب الرأسمالي المسيطر على جميع مفاصل الحياة. الأمر الذي يكون ضمن إطار لأحد الأسباب الكلية في تذويب النموذجية و / أو البطولة الّتي اخذت جانب الوحدانية بشكل كبير. بالتّالي، يسهم ذلك المفهوم في دحض أغلب مشاريع الاستهلاك. فالجلوس في البيت أكد تآلف الأسرة والحصول على وقت جديد من أجل خطاب العائلة. وهذه الشَّركات جعلت منا غير متآلفين مع ذواتنا الأخرى. وهنا ثمَّة مرحلة جديدة للفكر والثَّقافة تستمد هيكلتها من قلب الحدث اليومي بكل أشكاله الاعتياديّة / الاعتباطيّة الموجودة بكلِّ المقاييس.
إنَّ الجّائحة الّتي تواصل تعطيب المفاصل الحياتيّة كلَّها، وتحيل الجّميع إلى مكان واحد يتساوى به الجّميع، تحاول أن تعطي درساً أخلاقيّاً في مسألة الرّجوع إلى المنزل، بذا وجب التّوقف أمام تفاصيل تأكيديّة في التّعامل معها. وما مرحلة المعقّمات الموجودة إلا مكافئة للطبيعة، عبر تأكيد سيستم جديد، فما يمكن التّيقن به، أنَّ العالم السّابق لم يعد كما هو، بل جرأت طروحات وآليّات تعمد على بيان هذه الأفكار بكثير من المفاعيل الفكريّة وهذا الجّنوح صوب تأكيد معيار الكينونة له أشد الأطراس الموجودة في الخانة الحقيقيّة للفلسفة اليوميّة، فالمعجم الّذي يتكون في هذا زمن كورونا مختلف تماماً أيِّ وقت مضى، إذ يطلب أشياء من المستحيل على العالم تطبيقها مباشرة، منها (خليك بالبيت، التَّعليم الألكتروني، تعفير الدّار بشكل يومي، الشّك بكل المحيط، عدم الملامسة، الحجر الصّحي،) إلَّا أنَّه يخضع وعلى غير العادة إلى تطبيقها ودحر البطاقة البراغماتيّة والرَّاسماليّة في سبيل المحفظة على الذّات. ويجدر أنْ تكون البطاقة المدحورة حاضرة بنموذج آخر هو النجاة من محيط الفيروس والعمل الدّائم على ذلك بين الذّات والبيت، ليكونا في مأمن من التّأويل المتّبع في البرامج التّلفازيّة، إذ أعطت حضوراً ومعنىً لهذا الفيروس لا يمكن للفرد المصاب به أن ينجو، وتلك هي المعضلة الّتي تواجهها الآن الكوادر الطّبيّة، والعمل توعية وتثقف النّاس إلى مسألة الحجر.
الكورونا تكتب ذاتها عبر الملامسة، وتكوين ذاتها ضمن أسس عمليّة انتقاليّة في مرحلة العطاس انتقالاً بالرّذاذ، فأيِّ شكل يستطيع الكائن مهما يكون فحواها إلى التّوسع ومباشرة عملها عبر استغلال الهواء / التّنفس، ليعطي انموذجاً حاد الطّباع، وبذا يتم تركيب القياسات بحسب المكوّنات المطروحة. وهنا لا بد من تأكيد القسوة المتكوّنة في الطّرف الآخر، إذْ تكوّن محيطاً ارتكازيّاً داعماً لكافّة المفاصل المتواصلة.
لم تعد الفلسفة هي المخلّص لا بهذا الوقت ولا بالأوقات الماضيّة، لكنّي أرقب التّحوّلات الّتي تحصل في طياتها، فيشرع السلوفيني (سيلافيو جيجك) إلى تقويض حالات الإنهيار الابستمولوجي، عبر ردم التّفاصيل الموجودة، بذا نجد الرّؤية المتحركة في المشغل الفكري لديه، فلا يقف عن الجّائحة لأجل التّفرج عليها، بل نجده يشتبك معها في سبيل إعطاء مساحة لخطاب (شيوعي جديد) هو الذّات المناحة لمثل هذه الانتقالات الرّؤيويّة الموجودة. وهذه هي اللحظة الحاسمة الّتي يدخل فيها خطاب الذّوات التّفاعليّة لبعد ما بعد الحداثة، الحاصلة على كويكبات من النّظريّة الفلسوسياسيّة لبيان فكرة الاخطبوط المتفيرس المساهمة في الحيلولة على البنى الاقتصاديّة والتّوسع. ولا يخفى على الجّميع أنَّ (ووهان Wuhan) منتجع الفيروس، كوّنت حيلولة للعديد من النّمذجات التّخيلية، فجرى وضع المخطاطات ما قبل كورونا بالمتحف و / أو وضع ضمن مركزيّات الخطاب الاكلينيكي / السّريري.
الكلُّ لا يعرف في هذا الوقت، وإنَّي بهذا الوقت لأجدُ الفاعل هو العودة إلى تمرحل آخر من مرحلة الشّك الديكارتي، فلا سوائد بالإمكان الاعتماد عليها، ولا يتم التأكيد على سلسلة معيّنة بل ثمَّة أزمة اجتاحت النّظام العالمي لتقض عليه، وتعيد تركيب فاعليّته عبر النّمو العميق للطبيعة، فسيطرة هذه الكائنات تقوم على استيعاب جميع الأحداث الّتي تحصل في دول العالم. فما نراه في إيطاليا من أرقام مرعبة وكذلك الأمر ألمانيا إيران، وانحسارها في الصّين لا بل انتهائها، هي دليل واضح على هشاشة الحالة الإنسانيّة للوقف أمام هذا الوباء. فالمستشفيات غير صالحة لحجر المرضى، ولا توجد فيها أدوات كافية لتأكيد على وجود نظام صحي جيد، وهذا ما يتم ملاحظته في العراق على أغلب الخصوص، فيجب تقييم كل النّظم الصّحيّة العالميّة، حتّى لا يتعرض البشر إلى مثل هذه الحالة مرَّة أخرى، فالسّياسات بدأت وستنتهي بالسّرقات الّتي دائماً هي مشغولة بها، والآن جعل هذا الفيروس الجّميع أمام عتبة المستشفيات الوهميّة والمسروقة، فلا دولة بإمكانها أن تقوم باستقبالك، ولا أموال تسد من رمق العيش لديك، وذلك التمظهر يشكل حبلاً واسع الانتقال في زمن لم يعد تدارك هذه الأشكال في مرحلة واحدة فقط، بل جرى تأكيد ذلك عبر منظومة شموليّة. فالدّول الآن تحاول إيجاد حلول لدول أخرى، فما فعله فيدل كاسترو من أرسل فريق أطباء من كوبا، في سبيل معالجة الدّول الّتي لا تمتلك كوادر صحيّة جيدة هو السّبيل الّذي وجده ربما جيجك في إعادة تأكيد نظام الشّيوعيّة الجديدة، فالوباء يحاول تجميع العالم بكل أشكاله على منضدة مفاهيميّة عاليّة الحضور، وهنا نلحظ مثلاً حالة الطّوارئ المعلنة في كل دول العالم لمجابهة هذا الفيروس .

شاعر عراقي