شهدت الأيام الأخيرة إتصالات بين تركيا و"إسرائيل" بغاية الدقة والتكثيف إستدعت قيام مسؤولين من كلا الطرفين بزيارات متبادلة، غالبيتها قام بها مسؤولو الأمن والإستخبارت، حيث أبدت تركيا قلقها من تعاظم التعاون في كافة المجالات بين اسرائيل والقيادات الكردية في شمال العراق، ودخول شركات من "إسرائيل" ويهودية من الخارج إلى المنطقة المذكورة للقيام بمشاريع تشير الى أن الأكراد يستعدون قولا وعملا وفعلا للاعلان عن دولتهم على تخوم تركيا النائمة على التطمينات الأمريكية بأن لا دولة للأكراد في طور القيامة ستشكل ضربة للامن القومي التركي، إذ أكدت تركيا عشية الإنتخابات العراقية لمسؤول عسكري "إسرائيلي" قام بزيارة سرية لها بأن مزيدا من الدعم "الاسرائيلي" للاكراد سيؤثر سلبا على العلاقات بينهما، وأنها ـ أي تركيا ـ ستضطر لإعادة النظر في مجالات التعاون والتنسيق بين الجانبين على مستوى عال.
كما بات معروفا، إن "إسرائيل" تقدم كافة أنواع الدعم للأكراد الذي يساهم كثيرا في إعلان إستقلال "كردستان" وهو أمر ترفضه أنقرة منذ سنوات طويلة، وترى في تحقيقه خطرا كبيرا على أمنها، خاصة وأن هناك أكثر من 12 مليون كردي في تركيا على حدود "كردستان" ركنوا الى العمل العسكري مطالبين بالاستقلال عن تركيا، كما أن الجوار السوري ما زال رافضا بقوة ويتحين الفرصة القاتلة لإجهاض أي أمل بالإنفصال الكردي في العراق، سيما وأن الأكراد السوريين ما زالوا يكنون الحقد لممارسات النظام البعثي السوري بحقهم إنطلاقا من مرسوم التجنيس والإحصاء الصادر عام 1963 والذي حرم حوالي 200 ألف كردي من حق المواطنة، والذي وصف حينها بقانون عام 1963 العنصري*. اليوم كما في السابق، ترقب تركيا بدقة تطور العلاقات بين "إسرائيل" والمنظمات الكردية وما تقدمه الأولى من دعم واسع في كافة المجالات لهم. هذا التعاون الذي وفر لـ "إسرائيل" إستقلال "كردستان" إستخباريا وأمنيا حتى الأن، يستعمل ضد الدول المجاورة كإيران وسوريا على المستوى العملي والإستراتيجي، وتسعى من خلاله إلى مزيد من التغلغل في الاراضي العراقية، وتوجيه طعنة لتركيا هو هدف منظور جدا على الرغم من ارتباطهما بعلاقات قوية وتحديدا على المستوى الامني.. ومن ثم ستصبح الرقبة الخليجية جاهزة للنحر ومهددة من الداخل (خاصة الكويتية والسعودية منها)، وستصبح حتما أقرب إلى الفك "الإسرائيلية" على كل المستويات.
على خط أخر، إن مطالب الاكرادفي العراق الجديد بمنصب رئاسة الجمهورية أو إذا تعذر رئاسة الحكومة لهي محاولة تصعيد الضغوط على العراقيين بكافة طوائفهم وأعراقهم للحصول على المزيد من الامتيازات والمساومات على المناصب البديلة، وما تجربة مجلس الحكم المنحل والحكومة المؤقتة إلا الإنعكاس الواقعي لعلاقة الاكراد بالحكومة المركزية في بغداد، حيث يسعى الفصيلين الكرديين الأساسيين إلى كسب المزيد من المناصب والامتيازات.. وما ذريعة الانتماء العراقي ووحدة أراضيه والمطالبة بالفيدرالية والتعددية القومية إلا سلسلة مهمة في طريق الفخ المغطى تحت رماد الإنفصال الحتمي. إن هذه المحاولة لبائسة ومكشوفة، وطعام شهي للفاسدين واللأهثين إلى مغانم السلطة، إنها ذر الرماد في العيون لمن يريدون كسب ود الأكراد وعطف الأكراد للوصول إلى سدة رئاسة مجلس الوزراء، خصوصا الثالوث العراقي غير المقدس (علاوي – الحكيم – الجلبي)، سيما بعد نتائج الإنتخابات وما أفرزتها من فرز جديد للقوى ستحدد مستقبل البلد الجريح في غتجاهاته السياسية وخياراته القمعية "الدستورية تحت سلطة الإحتلال. ضف إلى ذلك، أن "حكومة كردستان" المحلية تمتاز بالكثير من مواصفات الحكومات المستقلة في الدول المعترف بها دوليا، وترفض الخضوع الى سلطة الحكومة المركزية في بغداد، وأن المطالبة بمنصب رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة يضمن الكثير من الأسهم الرابحة لكلا الأطراف "الثالوث" المتصارع على رئاسة الوزراء والأكراد المطالبين بمنصب الرئاسة تغطية على مشروع الإنفصال الذي يسير على قدم وساق على طريقة خذ وطالب.. وما الفساد الإداري والسياسي وتنظيم البيت الكردي الداخلي وتوزيع الحصص والمكاسب من أجل الإنفصال أولا ومن ثم بدء المعركة على صعيد "كردستان" داخليا إلا البداية، ومن الملاحط أن كلا الفصيلين الكرديين الرئيسيين قد أجل معركة الحسم السياسي وتقاسم النفوذ إلى ما بعد الإنفصال أو إلى مرحلة لاحقة خوفا من ضياع الفرصة "التاريخية" مستفيدين حتى الحد الأقصى من لحظة التشظي والفوضى الحاصلة، والتي ما من شك وأنها ستساعد إلى حد كبير في تعزيز "ثقافة" الإنفصال والشحن التعبوي في "كردستان".. وهنا هل يصح قول الكاتب "نزار جاف" في تعليقه على هذه المسألة: "لعل أن رجلا کالطالباني حين يرشح نفسه بمبارکة من حليفه الاستراتيجي السيد مسعود البارزاني فإنه يعني ما يفعل ويحدد بدقة ما يريد، بيد أنه في ذات الوقت لا يعتبر الأمر فرضا إجباريا على الاخرين لا بد من الأخذ به " کما يبدو من بعض الطروحات على الساحة العراقية حاليا" بل إنه وحين يرشح نفسه فإنه يريد أن يقول للعراقيين جميعا دون إستثناء، لقد آن الأوان کي نثبت لبعضنا أن حب العراق والاخلاص له لا يختص بعرق دون آخر ولا بطائفة معينة دون سواها.."؟
طبعا ليس كذلك.. وحتما سيظهر الجواب البكائي على حائط "كركوك".. ومن الحب ما قتل يا عراق!!
إن الشعب العراقي لم يحصل على الكثير مما يتمتع به الاكراد في "كردستان" خصوصا أنهم حرموا من القوات الامنية والاستخباراتية لدعم الامن والاستقرار، حيث قد تم حل جميع الميليشات الموجودة على أرض الواقع ولم يتم بناء الجيش الجديد بطريقة مدروسة، إلا أن قوات "البشمرغة" ما زالت هي القوة الضاربة في منطقة "كردستان" دون أي تأثير مركزي أو نوع من إلحاقها بالجيش العراقي الجديد، حيث يركز الاكراد على ضمان أمن "مناطقهم" دون الأخذ بعين الاعتبار بأمن الوطن الذي يدعون لوحدته ويزعمون كذلك يوميا في تصريحاتهم، وفي كل مؤتمراتهم الأخيرة (راجع مقررات موتمر أربيل)، لذلك يتوجب عليهم قدراً كبيراً تجاه وطنهم من التجرد والنزاهة والشفافية في كل ما يقولون ويفعلون. إن تولى الاكراد منصب رئاسة المجلس الوطني ونائب رئيس الجمهورية ومنصب نائب رئيس الوزراء والعديد من الحقائب مثلا الخارجية، الاشغال، المرأة، حقوق الإنسان، رئاسة أركان الجيش والحقائب الدبلوماسية خارج العراق قد شكل إنطباعا سيئا لدى الدول العربية التي تحفظت عن التعامل مع الواجه الكردية للحكومة العراقية بدافع تغليب الأكراد على باقي الشرائح بالاستيلاء على زمام الامور تحت ذريعة الحرمان التاريخي منها، وهذا ما أكدت عليه الاوساط السياسية السنية والشيعية والتركمانية في الكثير من المناسبات، وقد حاولت بعض الدول العربية إستغلال هذه النقطة وعبرت عن إستيائها مباشرة أو عبر الطعن ببعض الخطوات السياسية في العراق الجديد.. بيد أن واقع الحال يشير الى الكثير من التوقعات، إذ إن مسألة إنفصال الأكراد باتت قريبة رغم كل المحاولات والتطمينات التي يفسرها اللوبي الكردي بالاصرار على الانتماء الى العراق وتفضيل الفيدرالية على الاستقلال وأنهم مع وحدة الأراضي العرقية ومع إقامة حكومة مركزية.. وما قد يثير الإشمئزاز والقرف من السياسات المستحيلة هو الإصرار على الطابع الكردستاني لمدينة "كركوك" الغنية جدا بالثروات النفطية (يقدر الخبراء على أن كردستان تحوي على 30% من إنتاج النفط العراقي)، فإذا كان الأكراد مع وحدة أراضي العراق فلماذا هذه الضجة على "كردستانية كركوك"؟ ولماذا يسعون بالقوة والتزوير لتغيير ديمغرافيتها؟ أسئلة تحت مجهر الإجابة لمسؤولي العراق الجدد، ولكل المثلثات الطامعة سياسيا في تركيبة ما بع "صدام".. إن أي تواطؤ ووعود في مسألة "كركوك" أو إقرار بالإنفصال أو بتجزأة لوحدة الأراضي العراقية ستظهر بوادره في أيام ليست ببعيدة، وتجربة الحكم الذاتي التي يستغلها الاكراد أبشع استغلال ما زالت حاضرة لقتل بلد لن يخرج من تحت مقصلة جلاديه من كل الجهات إلا بوحدة الأرض والشعب والمصير الواحد.. وإلا ستبقى كردستان لغم تاريخي فوق جثة العراق الجديد.
* للمزيد من المقاربة راجع مقالنا المنشور على الرابط التالي تحت عنوان: "الإجراءات السلطوية العنصرية والردود الخاطئة للأكراد، إشتعال للحرب فوق دكتاتوريات الرماد ـ دراسة مقارنة".
http://elaph.com/AsdaElaph/AsdaElaphAuthors.htm?search=25amp;page=2
نضال القـادري
كاتب وشاعر سوري قومي إجتماعي
أوتاوا، كندا ـ في 13 شباط 2005
التعليقات